وضع الاتفاق الروسي التركي في سوتشي حول إدلب هيئة تحرير الشام أمام خيارات “محدودة” سيترتب عليها مصير المحافظة في تكون أن لبنة هامة في بناء حل الأزمة السورية الشامل أو حجر عثرة ومشجبا تعلق عليه قوى التعطيل لهذا الحل حججها.
وجنّب الاتفاق الروسي التركي القاضي بإنشاء منطقة منزوعة السلاح على خطوط التماس في مرحلة أولى محافظة إدلب هجوما عسكريا وشيكا لقوات النظام، لكن محللين يشككون في قدرة أنقرة على فرضه كأمر واقع على الفصائل التي تسيطر على المحافظة وخصوصا المتطرفين الأجانب منهم والذين يقدر عددهم بألفي مقاتل يتمركزون غربي إدلب.
وبحكم النفوذ التركي الكبير في إدلب، يحمّل الاتفاق أنقرة مسؤولية تنفيذه في مقابل التزام روسيا بمنع النظام من اجتياح المحافظة، من تسليم السلاح الثقيل وضمان انسحاب مقاتلي المعارضة تماما من المنطقة العازلة بحلول 15 تشرين الأول/أكتوبر المقبل.
وحتى الآن لم تعلن هيئة تحرير الشام، المصنفة “إرهابية” من قبل المجتمع الدولي، أي موقف تجاه الاتفاق الروسي التركي، ويرى مراقبون أن تنفيذ الاتفاق سيكون أمرا فائق الصعوبة على الأتراك وربما ينتهي الأمر بـ”فشل” وقف إطلاق النار وبهجوم الجيش العربي السوري خلال الأشهر المقبلة على المنطقة وإحداث كارثة إنسانية يتخوف العالم كله منها.
وكانت وكالة “إباء” الإخبارية التابعة للهيئة قد انتقدت تركيا صراحة، واعتبرت أنها “تسعى لتحقيق مصالحها وإظهار نفسها كمخلص وحيد للأهالي”. كما قال القائد العام للهيئة أبو محمد الجولاني إن سلاح الفصائل “خط أحمر لا يقبل المساومة أبدا ولن يوضع يوما ما على طاولة المفاوضات”.
ويشير المراقبون إلى أن الهيئة إذا ما تخلت عن خطوطها الدفاعية ومراكز تموضعها على أطراف إدلب ستجد نفسها في موقف ضعيف جدا في مواجهة أي هجوم لقوات النظام والمليشيات الإيرانية الداعمة لها.
ولكن يمكن للهيئة أن تلعب دورا مهما إذا ما قبلت التعاون مع الأتراك لتصفية المجموعات الأشد تطرفا كـ”حراس الدين” الذين يمثلون الجناح الأردني للتنظيمات المتطرفة في إدلب والجناح المصري في الهيئة الذي يقوده أبو اليقظان المصري الذي توعد مؤخرا الإيرانيين بالمواجهة في حال فكروا اقتحام المحافظة.
وفي حال قامت الهيئة بذلك فإنها ستظهر بمظهر المتعاون مع الإرادة الدولية التي تريد تجنيب المحافظة أي هجوم قد يؤدي إلى كارثة إنسانية وموجة نزوح وتهجير لن تهدد تركيا بقدر ما ستهدد أوروبا كلها، والتهديد ليس محصورا بصعوبة “كفالة” هؤلاء النازحين وإغاثتهم؛ بل التهديد بأن يتسرب آلاف المتطرفين الخطرين على أمن أوروبا والعالم من إدلب، وفي نفس الوقت ستصبح الهيئة مؤهلة للمشاركة في عملية سياسية “خاصة بإدلب” من حيث السماح بوجود إدارة محلية ذاتية مدنية ليست تابعة للنظام ولكن متعاونة معه في حدود إدارة وتوفير الخدمات العامة، وإدماج عناصرها في أي قوة أمنية محلية كما هو الحال بالفعل الآن.
أما في حالة فشل الهيئة في اختيار هذا المنحى فإنها ستجد نفسها في مواجهة التركي قبل الروسي والإيراني، وحينئذ سيكون على أنقرة القيام “منفردة” بحملة ضد الهيئة لحفظ ماء الوجه وتجنيب نفسها والعالم ما سيقوم به النظام وحلفاؤه في إدلب وما سيترتب عليه مما لا تقدر على احتوائه أو تحمله، أو الاضطرار إلى إشراك روسيا وإيران في هذه الحملة دون أي ضمانات أيضا بتحقيق أي نجاح مع بقاء مخاطر وتبعات التدخل العسكري كما هي بالإضافة إلى المعارضة الدولية لهذا الخيار.
ومع التطورات الدراماتيكية بين روسيا وإسرائيل في سوريا عقب قيام المضادات السورية بإسقاط طائرة الاستطلاع الروسية الأسبوع الماضي خلال تصديها لغارات إسرائيلية على مواقع عسكرية ومخازن أسلحة تابعة لحزب الله اللبناني في اللاذقية؛ يبدو النظام وحلفاؤه في أفضل أحوالهم بسبب توتر العلاقات بين موسكو وتل أبيب بشكل خطير، وإفراج روسيا عن شحنة صواريخ “إس 300″ وتزويد الدفاعات الجوية السورية بما يلزم من معدات الرصد الحديثة التي من شأنها إعاقة الهجومات الإسرائيلية المتكررة التي تكثفت مؤخرا، وهو ما يمنح قوات النظام وحلفائها الإيرانيين واللبنانيين والعراقيين فسحة من العمل العسكري وخصوصا في إدلب.
كما يمكن لهيئة تحرير الشام أن تنضم للجبهة الوطنية للتحرير وغيرها من الفصائل الكبرى في إدلب وشمال سوريا التي أشادت بـ”انتصار” الجهود التركية في تجنيب إدلب هجوم قوات النظام وحلفائه، مع إعلانها صراحة أنها لا تثق بروسيا وتأكيدها عدم نيتها التخلي عن السلاح، ولا نعني بالانضمام “الاندماج”، ولكن على الأقل التنسيق وإثبات أن الهيئة بالفعل تخلت عن التبعية لتنظيم القاعدة وباتت تقاطع كل من يمت له بصلة، فإعلان ذلك وحده “لايكفي” ولابد من أن يترجم على الأرض بطرد كل متطرفي التنظيم من إدلب أو التحفظ عليهم وتحييدهم أو على الأقل تجريدهم من سلاحهم وأسباب قوتهم التي تشكل خطرا على المحافظة وأهلها وتعطل كل الجهود السياسية التركية والدولية لتجنيب إدلب كارثة محققة مع أي هجوم للنظام وحلفائه الروس والإيرانيين عليها.
وعملت أنقرة في وقت سابق على توحيد صفوف فصائل المعارضة في إدلب تحسبا لأي مواجهة محتملة مع هيئة تحرير الشام بعدما طالبتها روسيا بإيجاد حل للهيئة يجنب المنطقة عملية عسكرية، وقد تحتاج أنقرة اليوم للجوء إلى الخيار ذاته، حيث يريد الروس دليلا على نجاح تركيا في هذه المهمة خلال أقل من شهر وعلى تركيا أن تفعل أو تفسح المجال للروسي ليتصرف.
كما يتواجد في إدلب وبقية المناطق المحررة في ريف حلب الشمالي عشرات الآلاف من المقاتلين التابعين لفصائل المعارضة والجيش السوري الحر من أبناء المنطقة وبقية المحافظات، ومعظمهم لا يتفق مع الهيئة ومشروعها “اللاوطني” الدخيل على السوريين، ويمكن لتركيا دعم كل هؤلاء للقضاء على الهيئة وعلى بقية فصائل المتطرفين المراد التخلص منها. وعلى الهيئة أن تحسب حسابا لخياري “التعاون أو الفناء”، وسبق أن أبدت الهيئة مرونة كبيرة في كل مواجهاتها مع النظام وروسيا وحزب الله والإيرانيين عندما أبرمت اتفاقات انسحاب من حلب ودمشق ودرعا والقنيطرة وحمص، وأزعنت للانسحاب والاستسلام لأعدائها ومن قاتلها ومع استبعاد أن تغير منهجها وتواجه الأتراك الذين لم يقاتلوها يوما، بل إن بين الطرفين محادثات واتصالات لم تنقطع يوما، إلا أن احتمال المواجهة يظل قائما خصوصا مع حالة الحصار المطبق والرفض القاطع من أي دولة قبول عودة مواطنيها المتطرفين من إدلب.