يدور الحديث هذه الفترة عن الدستور في سوريا، ومن الطبيعي أن يتضمن هذا الحديث نقاشات محتدمة، وأن يكون الحوار حول هذه القضية مستفيضا ومتشعبا رغم أنه يجري وسط أصداء قرع طبول الحرب التي لم تتوقف بعد، خاصة أن سوريا مقبلة على مرحلة وستطوي مرحلة، ومهما اختلفنا أو اتفقنا حول هذا الموضوع فالدستور هو الذي يحدد الشكل العام القادم للدولة وينظم قواعد الحكم ويوزع السلطات ويبين اختصاص كل منها، كما أنه يحدد حقوق وواجبات المواطنين.
والدستور، كما هو معلوم، عبارة عن عقد اجتماعي مبرم يحدد، ضمن محدداته العديدة، العلاقة بين السلطة والشعب أو الحاكم والمحكوم على أسس العدالة والحكم الرشيد، وقد كانت هذه البديهية غائبة عن الدستور السوري الحالي نصا وروحا، وهذا الدستور جرد الشعب السوري من حقه الراسخ في المشاركة في الشأن العام ككل والعملية السياسية برمتها، وتحوّل المواطن من فاعل أو مشارك مشاركة إيجابية في صياغة دستور بلاده بما يضمن حقوقه الطبيعية، إلى مجرد متلقٍ يوافق السلطة الحاكمة على ما تعتمده من وثائق دستورية تكرس الاستبداد وانتهاك كل الحقوق، وترتفع بالسلطة القائمة عن المساءلة. وتم العبث بتلك البديهية المتعلقة بالعلاقة بين الشعب والسلطة، وتقليصها لدور رقابي هزيل لمجلس الشعب، والذي بدوره هو مجرد أداة في يد السلطة التنفيذية وأجهزتها الأمنية فضلا عن أنه يمكن للوزراء أن يكونوا أعضاء فيه، ودور محدود للقضاء الذي يرأس مجلسه الأعلى الرئيس نفسه.
إن فكرة أو مبدأ السيادة الشعبية لكتابة واعتماد الدستور من قبل مختلف القوى الاجتماعية المؤثرة والفاعلة غابت عن عملية وضع الدستور السوري الحالي، لتنحصر في هيمنة نظام يقوده “صوريا على الأقل” حزب البعث العربي الاشتراكي الحاكم على مدى عقود، الأمر الذي رسخ سلطة شاملة للاعب واحد أرسى سلطة مطلقة لحاكم فرد تجتمع بيده كل أجهزة الدولة ومؤسساتها وسلطاتها، بل وحتى قيادة المؤسسات والمنظمات المدنية والفئوية.
هذا الدستور لم يتوجه نحو تقنين السلطة الحاكمة أو على الأقل تنظيمها؛ بل على العكس عمل على إطلاقها لصالح مؤسسة واحدة هي الرئاسة، في مقابل تقييد حرية الشعب وبقية مؤسسات الدولة والمجتمع، يضاف إلى ذلك تفريغ بعض المواد الدستورية من مضامينها من خلال العمل على تقييدها بمواد أخرى، أو عبر مبادئ دستورية تعمل على ترسيخ ما هو قائم وتكريس أيديولوجيات باتت خارجة عن سياق العصر الحاضر في ظل تحولات العولمة الاقتصادية وسيادة حقوق الإنسان، أيديولوجيات لايؤمن بها من يتصدرون المشهد السياسي أنفسهم بل يعملون على عكس وضد مفاهيمها النظرية وتطبيقاتها الاجتماعية والاقتصادية.
بعتبير آخر؛ هذا الدستور “لا دستوري” في مضمونه ومقتضاه، فعلى سبيل المثال، الباب الثالث من الدستور، والذي يتضمن تحديد السلطات في الدولة، تم تقسيمه إلى ثلاثة فصول تتضمن: السلطة التشريعية، السلطة التنفيذية، السلطة القضائية، هذا التقسيم يوحي ظاهره بقيام الدستور على مبدأ الفصل بين السلطات، إلا أنه، إضافة إلى عدم ذكر الدستور لـ”مبدأ الفصل”، فإن قراءة متأنية للدستور تؤكد على أنه ليس هناك فصل بينها في الواقع، حيث يلاحظ هيمنة السلطة التنفيذية ممثلة برئيسها “رئيس الجمهورية” على السلطتين التشريعية والقضائية، وهذا رأي كل الفقهاء الدستوريين الحياديين الذين تكلموا وحللوا مضامين هذا الدستور.
أيضا التدخل والهيمنة بـ/على السلطة التشريعية، نلاحظه على سبيل المثال وليس الحصر في المادة (60) من الدستور التي تتضمن أن نصف أعضاء مجلس الشعب يجب أن يكونوا من العمال والفلاحين؛ هذه المادة تم تنفيذها على أرض الواقع ولكن وكما هو معروف بإعداد قوائم انتخابية “مضمونة النجاح بالانتخابات” لمرشحين من العمال والفلاحين تابعين للحزب الحاكم والأحزاب الموالية للنظام وتختارهم الأجهزة الأمنية بعناية، بل يختارهم الرئيس نفسه من بين مرشحين تختارهم الأجهزة الأمنية من أعضاء حزب البعث وأحزاب الجبهة “الشريك الصوري في الحكم”، كون تلك الأحزاب تعتبر نفسها الوصي الشرعي الوحيد على العمال والفلاحين.
وهذا أدى إلى غياب السلطة البرلمانية ودورها التشريعي والرقابي، والتي يفترض أن تتمتع باستقلالية راسخة وواضحة ليتسنى لها القيام بدورها التقليدي. كما نجحت السلطات التنفيذية في تجريد البنى الدستورية من قدرتها على القيام بأي دور من أدوار المحاسبة السياسية عبر التدخل الفج في كتابة الدستور على مقاسها وأيضا التحكم بآليات تأويله وفقا لاحتياجاتها ومصالحها، ومنحت نفسها سلطات تتعدى على باقي السلطات التشريعية والقضائية دون أي قيود تنظيمية مذكورة صراحة أو يمكن استنباطها والبناء عليها بالتفسير الدستوري، الذي يفترض أن تختص به المحكمة الدستورية أو المحكمة العليا.
وتعدى هذا الأسلوب ليطال انتخابات مجلس الشعب والمجالس المحلية ومنظمات المجتمع المدني من نقابات وجمعيات وتجمعات ونواد، ليهيمن الحزب الحاكم والأحزاب الدائرة في فلكه عليها، وأمثلة ذلك أكثر من أن تحصى، وأشرنا إلى بعضها سابقا عن كيفية اختيار رؤساء وأعضاء هذه المجالس والتجمعات والنقابات..
إن الإصلاح الدستوري الذي سوف تقرّه اللجنة الدستورية المزمع إنشاؤها قريبا برعاية أممية، يجب أن يكون عبر كتابة دستور جديد بالكامل يعالج كافة المشاكل الداخلية الموجودة في سوريا ما قبل الثورة وخلالها، وأن يكرس هذا الدستور المزمع كتابته الديمقراطية بدلا من الاستبداد، واحترام حقوق الإنسان بدلا من انتهاكها، وسيادة القانون بدلا من تجاوزه والتعدي عليه بالتغيير والتبديل كلما كان عائقا أمام الفاسدين والراغبين بالخروج عليه، وتحقيق المساواة في المواطنة بدلا من حالة التمييز التي كانت سائدة بسبب ممارسات الفئة الحاكمة والمتسلطة المنتمية للحزب ولمن ترضى عنه الأجهزة الأمنية كونه موال للسلطة وخادما لمصالحها على حساب مصلحة الشعب والبلد ككل، وكذلك الفصل التام بين السلطات من حيث آليات التشكيل والوظائف المناطة بها، وغيرها من المبادئ التي تؤسس لجمهورية سورية جديدة قادرة على إرساء السلم الأهلي المطلوب والشروع بعملية إعادة الإعمار وتحقيق الازدهار وتأمين عودة كريمة ومشجعة للاجئين والنازحين السوريين والقطيعة التامة مع الاستبداد والتمييز والدخول في عهد جديد يكون فاتحة لحقبة يتطلع إليها السوريون جميعا ويستحقونها.
علي العاصي