لا يبدو الخلاف التركي الأمريكي على عمق “المنطقة الآمنة” التي ترغب أنقرة في إقامتها قبالة حدودها الجنوبية في سوريا، فالأمريكان ليس لديهم مشكلة بدخول القوات التركية إلى الشمال الشرقي السوري وحتى الوصول إلى البوكمال طالما تركيا عضو بحلف الأطلسي والجيش التركي في الحقيقة يحمل عقيدة الحلف ومن الصعب جدا فك ارتباطه معه.
والغالب أن الخلاف الحقيقي بين الأتراك والأمريكان سببه التحالف التركي-الروسي، حيث يرغب الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، أو إدارته على الأقل، أن تبتعد تركيا عن روسيا قبل البدء بأي عملية عسكرية والعودة بشكل كامل إلى الحضن الأمريكي، ولذلك نجد أن الأمريكان يقدمون عروضا وإغراءات للأتراك، وليس آخرها عدم فرض عقوبات على تركيا بسبب شرائها منظومة صواريخ إس 400 التي صرح ترامب نفسه أنه يتفهم الموقف التركي وأن الخطأ سببه إدارة سلفه الرئيس باراك أوباما وليس الأتراك، رغم كل التهديدات السابقة لها بذلك، بل على العكس فقد سارعت الإدارة الامريكية على لسان الرئيس الامريكي بإعطاء مبرر لذلك بقوله إن تركيا تعرضت لمعاملة سيئة من قبل إدارة أوباما.
بالمقابل نجد أن الأتراك لايثقون بشكل كامل بالأمريكان كي يجازفوا بفك الارتباط مع روسيا، وهم يعلمون أن أمريكا لاتلتزم بوعودها مع أقرب حلفائها وقد تقع بورطة كبيرة مشابهة للورطة التي وقعت بها مع روسيا حين تخلى عنها حلف الأطلسي بعد حادثة إسقاط الطائرة الروسية في الأجواء التركية وتركها وحيدة تواجه روسيا، لذلك يسعى الأتراك للتوفيق بين الارتباط مع روسيا وبين العلاقة مع الأمريكان فهم يتابعون مفاوضات أستانة ضمن الجولات المتعددة ويشاركون الروس في العمل في منطقة إدلب والشمال السوري من أجل إيجاد صيغة توافقية بينهم، وأيضا نجد الروس يسعون بكل إمكاناتهم من أجل عدم فقدان الحليف التركي، وهم يستثمرون بكل طاقتهم من أجل تثبيت هذا الحلف وجعله يتطور ويتشعب إلى مجالات عديدة.
وقد قدمت روسيا إغراءات كثيرة لتركيا وأهمها تسليم منظومة إس 400 رغم عضويتها الرئيسية في حلف شمال الاطلسي وقد يؤدي ذلك إلى تسريب شيفرات الحماية لهذه المنظومة الصاروخية التي تعتبر من أهم منظومات الدفاع الجوي الروسي إلى دول الحلف، الأمر الذي سيعتبر هدية ثمينة لقوات الحلف، وبالنسبة لروسيا هو مجازفة كبيرة قد تؤدي إلى كشف أحد أهم أسرارها العسكرية التي حافظت عليها لعقود طويلة.
ولكن الرغبة في إثبات مصداقية روسيا لتركيا ومحاولة إبعادها عن حلف الأطلسي والرؤى والتوجهات الأمريكية والغربية يجعل الروس يخوضون هذه المغامرة غير المعروفة نتائجها إلى الآن، لذلك تسعى روسيا بكل جهدها من أجل إثبات صداقتها وحسن نواياها تجاه أنقرة، وتقديم نفسها على أنها الحليف الذي يمكن الوثوق به وأنها القادرة على القضاء على المخاوف التركية تجاه التطلعات السياسية للكرد في سوريا، كون روسيا أصبحت تسيطر بشكل كبير على قرار النظام السوري وتستطيع فرض رؤيتها عليه، وهو ما يظهر من خلال تصريحات المسؤولين في النظام أنهم لن يقبلوا بأي انفصال أو فيدرالية، وأنهم لايقبلون إلا بسوريا موحدة تخضع لسلطة دمشق، كما قبل عام 2011، وهذا بالتالي يمنح الأتراك أريحية وطمأنينة تجاه تطلعات الكرد السوريين بإقامة إدارة ذاتية معترف بها من قبل النظام وحلفائه، ولكن المشكلة تكمن في سيطرة الأمريكان على مناطق سيطرة الكرد في سوريا، وهذا بالتالي يجعل ورقة الضغط الكردية بيد الأمريكان وليس الروس.
في الحقيقة إن الأتراك يمتلكون حاليا هامشا كبيرا تخولهم التحرك بقوة ويمنحهم ميزة تفاوضية، وهم يعلمون أن الأمريكان والروس يرغبون بكسب ودهم، ومما يزيد من هذا الأمر هو موقع تركيا الجغرافي وحدودها الممتدة على طول 960 كم مع سوريا، والذي يعطيها القدرة على الحركة والمناورة بشكل كبير وتحريك الأوضاع بكل سهولة ويجعل من الصعب تجاوزها في أي اتفاق على سوريا وليس مع سوريا.
هذا فيما يعلم الأتراك تمام العلم أنهم سيكونون مجبرين في لحظة ما على الاختيار بين أحد الطرفين، ولن يمكنهم الاستمرار في سياسة “حمل بطيختين بيد واحدة” لذلك يرغبون بالحصول على ضمانات أمريكية أقوى مما كانت لديهم سابقا، ويرسلون رسائل من خلال مفاوضاتهم مع واشنطن من أجل إقامة المنطقة الآمنة مفادها “دعونا أولا ندخل ونقيم المنطقة الآمنة بغطاء أمريكي مصحوب بغطاء من حلف الأطلسي، وبعدها سنقوم بفك الارتباط مع الروس”، ولكن الأمريكان يصرون على مبدأ فك الارتباط قبل الدخول إلى المنطقة الآمنة بغطاء منهم ومن حلف الأطلسي، فهم يخشون أن تقوم تركيا بإنشاء المنطقة الآمنة ومن ثم تضع الجميع تحت الأمر الواقع، ولاتقوم بفك الارتباط بروسيا، وبذلك تكون قد حصلت على ما تريد من الغرب دون خسارة الحليف الروسي، وهذا يعتبر صفعة قوية خصوصا أن الغطاء الغربي سيكون من الصعب رفعه وقتها عن تركيا، وتكون أمريكا قد خسرت الحليف الكردي ولم تكسب الحليف التركي بشكل كامل، وتكون روسيا قد حققت نقطة لصالحها في الملف السوري من خلال إبقاء علاقاتها متينة مع الأتراك.
تركيا لاتريد خسارة أمريكا وهي تعلم أنها غير قادرة على تحمل مثل هذه الخسارة، وتعلم أيضا أن هناك العديد من الدول مستعدة أن تطرح نفسها كبديل عن الأتراك مع الأمريكان لذلك تعتمد حاليا على مبدأ جس النبض والتهديد بالعمليات العسكرية في الشمال الشرقي السوري، ولكنها لن تقوم بأي عملية دون موافقة أمريكية صريحة، وهذه الموافقة لن تكون دون اتفاق كامل يضمن مصالح الطرفين.
في النهاية لاتزال الأمور ضبابية وعرضة لكل الاحتمالات، ولايزال “المزاد” قائما والجميع يحاول كسب أكبر قدر ممكن من المنافع والحصول على أكبر قطعة من الكعكة، والجميع أمامهم خيارات يمكنهم خلالها الوصول إلى حلول وسط في لحظة ما، ولكنهم إلى الآن في مجال المفاوضات وترتيب الأولويات وانتظار الظروف المواتية من أجل هذا الاتفاق الذي سيرسم وجه المنطقة المقبل، فالمنطقة الآمنة لاتخص تركيا فقط، بل ستكون جزءا من اللوحة الكاملة لشكل المنطقة الذي لا شك سيتغير.
صدام الجاسر