فيما دعت مفوضية الأمم المتحدة لحقوق الإنسان حكومات دول العالم إلى إعادة رعاياها من مخيمات الاحتجاز التي تضم آلاف الدواعش وأطفالهم في الجزيرة السورية في ظل تراجع القدرة على الوصول إلى المساعدات الإنسانية وزيادة مخاطر جائحة كورونا؛ يبدو الوضع شديد القتامة حول مصير الأطفال المحتجزين مع ذويهم الدواعش في سوريا دون أي حلول تلوح في الأفق لهذه الأزمة المعقدة إنسانيًا وأمنيًا.
ففي معسكرات الاحتجاز الشاسعة في الجزيرة السورية شمال شرق سوريا، التي تضم مئات الآلاف من موقوفي تنظيم داعش الأجانب، لا يُمثُّل فيروس كورونا أكبر المشاكل الصحية. فسوء التغذية، وانخفاض درجة حرارة الجسم، والأمراض التي يمكن الوقاية منها أماكن احتجاز الإرهابيين المتكدسة القذرة، في حين تنتشر عدوى التطرف دون رقيب، كما تقول مجلة فوربس الأمريكية في تقرير نشرته مؤخرا.
كل عامٍ، يولد مئات الأطفال، الكثير منهم من أصولٍ أوروبية، في بيئة الحرمان البائسة هذه. هؤلاء ذرية 12 ألف مقاتلٍ أجنبي أو نحو ذلك، اعتقلتهم قوات التحالف الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة الأمريكية تزامناً مع انهيار تنظيم داعش وانتهاء مشروعه بإقامة دولة خلافة إسلامية.
محنة هؤلاء الصغار موثقة جيداً، فمعسكرا الاحتجاز أو اللجوء الأكبر في سوريا، “الهول” و”الروج”، يدبّ فيهما العفن والقذر، وتندر فيهما الرعاية الصحية والمياه الصالحة للشرب. وفي غياب الأدوية الأساسية، تنتشر الأمراض القابلة للعلاج مثل السل، وتحصد الكثير من الأرواح. في العام الماضي، كان ثلثا حالات الوفاة بين المعتقلين، البالغ عددها 371، من الأطفال.
أما الذين لم يمسّهم المرض فيُعانون من الانتهاكات النفسية. إذ يفرض المتطرفون التفسير الخاص بهم للإسلام الذي تبناه تنظيم داعش على الأحداث، وفقاً لتقارير المراقبين. ومع غياب أي صورة من صور التعليم النظامي، أو أي محاولاتٍ لنزع التطرف من هذه المعسكرات، لا يجد الصغار الضعفاء أمامهم إلا التطرف رؤية ومنهاجاً يفهمون من خلاله وجودهم وحياتهم بالغة القسوة والوحشية.
لكن أوروبا لا تبدو عازمة على التدخل. فقد تبرأت القارة من الجهاديين المهاجرين وأطفالهم، وترفض معظم الدول رفضاً باتاً تقديم المساعدات القنصلية أو تنزع الجنسية من الأصل عن مواطنيها من الجهاديين.
وهذا موقفٌ تؤيده قطاعات واسعة من الرأي العام الأوروبي. إذ يُعارض المواطنون في غالبيتهم إعادة المقاتلين المعتقلين وأبنائهم إلى أرض الوطن، بعد الفزع الذي تسببت به الهجمات العنيفة في الشوارع الأوروبية على يد مهاجمين موالين لتنظيم داعش. وفي فرنسا، البلد المُبتلى بإراقة الدماء في هجماتٍ إرهابية عديدة، رفض 89% من المُجيبين على أحد استطلاعات الرأي فكرة إعادة أعضاء تنظيم داعش السابقين إلى فرنسا، في حين احتج 67% على إعادة الأطفال.
لكن نقاشاً أخلاقياً يستعر حول هذه المسألة. فإذا كان القصر لم يتخذوا قراراً شخصياً بحمل السلاح لأسباب متطرفة، هل يُمكن لبلدهم الأم أن يقرر نسيانهم؟ يرفض ذلك كثيرون، ويجادلون بأن الطفل لا يجب أن يحمل وزر جرائم أبويه.
ويدعم هذه الحجة المخاطر الكبيرة لانتشار التطرف بصورة واسعة بين هؤلاء الأطفال. فمع افتقارهم إلى أي تعرضٍ للفكر الآخر، تصبح عقول الأحداث عرضة للتلقين المتطرف، ما يثير مخاوف من أن جيلاً جديداً بالكامل من المتطرفين يجري إعداده حالياً في معسكرات الاعتقال.
وحين يُطلق سراح المعتقلين، وهذا سيحدث عاجلاً أم آجلاً، فإن سيناريو عودتهم غير الشرعية إلى أوروبا للانتقام من أهلها ليس مستبعداً. وفي هذا مخاطرة لا يسع القارة اتخاذها، وفقاً لمؤيدي ترحيل الأطفال إلى أوروبا.
عوضاً عن ذلك، ينبغي تأسيس فريق عملٍ عالمي يحكم بالبراءة أو بالإدانة على المواطنين الأجانب المعتقلين، وتأسيس مراكز لإعادة تأهيل الأطفال تُبعدهم عن جذورهم المتطرفة.
وقد بدأت تلك المقترحات تحظى ببعض التأييد. إذ تقترح السويد رسمياً تأسيس محكمة دولية لمُحاكمة مجندي تنظيم داعش، كما نقلت السلطات الفرنسية مؤخراً طفلة مريضة مرضاً شديداً تبلغ من العمر سبعة أعوام إلى فرنسا لتلقي العلاج، مع أن أمها وأخويها وأختها التوأم ما زالوا في معسكرات الاحتجاز.
لكن الإعادة الجماعية للمعتقلين احتمال ضعيف. حتى وإن وضعنا جانباً رفض الرأي العام الأوروبي، تظل عقبات عملية عديدة تحول دون ذلك. ففي غياب الآباء، بموتهم أو اختفائهم، يصعب التأكد من نسب الابن (وحقه في الجنسية بالتبعية). وبالمثل، فإن إرسال موظفين قنصليين إلى المنطقة شديدة الاضطراب يمثل خطراً على حياتهم، والعديد من الحكومات لا ترغب في مثل تلك المخاطرة. لهذه الأسباب، يبدو مستقبل آلاف الشباب الأوروبيين مظلماً، إذ يُصارعون من أجل البقاء في الجزيرة السورية.
جاء هذا فيما دعت مفوضية الأمم المتحدة لحقوق الإنسان، الدول إلى إعادة رعاياها من مخيمات اللاجئين في الجزيرة السورية، في ظل تراجع القدرة على الوصول إلى المساعدات الإنسانية وزيادة مخاطر جائحة كورونا.
وأعربت رئيسة المفوضية ميشيل باشيليت عن قلقها البالغ إزاء محنة آلاف العالقين في مخيمات النزوح مثل مخيم الهول ومخيم روج، لا سيما أن أغلبهم من النساء والأطفال.
وشددت باشيليت، على ضرورة أن تتحمل جميع الدول مسؤولية رعاياها وفقا لالتزاماتها بموجب القانون الدولي، مبينة أن بعض الدول حرمت مواطنيها من الجنسية ورفضت تقديم الخدمات القنصلية لهم، وهي أساليب تقلل من احتمالية الحماية الفعّالة والمساءلة عن الجرائم التي ارتُكبت.
وأوضحت أنه عندما يعود الناس إلى ديارهم، يمكن للدول أن تمضي قدماً في إجراءات إعادة تأهيلهم وإدماجهم، ومحاكمتهم إذا لزم الأمر.
ووفقاً للمفوضية، فإن نحو 90 ألف سوري وعراقي ورعايا دول ثالثة، يعيشون في مخيمات النزوح المكتظة، ويتهمون بأنهم من عائلات تنظيم داعش، بينما لا يزال نحو 85 ألف طفل من أكثر من 60 دولة محتجزين في مخيمات تحت سيطرة “الإدراة الذاتية”، ثمانية آلاف منهم من رعايا دول ثالثة.
وترفض الدول الغربية بشكل قاطع، استعادة رعاياها من مخيمات شمال شرقي سوريا، للاشتباه بانتمائهم إلى تنظيم “داعش”، في حين أعلنت دول عن استعادة الأطفال فقط.