على وقع المأساة السورية، كثرت أعداد المحللين السياسيين والخبراء الاستراتيجيين والمخططين العسكريين على شاشات الفضائيات الاخبارية وصفحات الجرائد والمواقع الالكترونية إلى درجة بِتُ فيها أخشى أن أجد أحدهم في كل علبة سردين، حتى لو كانت منتهية الصلاحية.
هذا يعرض ما يجري على أنه كذا وذاك ينسف نظرية الأول وثالث بين هذا وذاك ورابع يرفض كل ما سبق ليأتي من عندياته بمقاربة ليس لها أول من آخر!
انتشروا كالفطر السام في صحراء المشهد السوري، وأصبح كل من هب ودب يُفتي، ويشرق ويغرب، وأصبحت قراءة مآلات الأمور في سورية مهنة من لا مهنة له، يهرفون بما لا يعرفون، وهم في ذلك أقرب ما يكون إلى “قرّاء الودع”.
تُذَكِرني هذه الظاهرة بقصة حصلت معي شخصيا كنت فيها البطل الجهبذ الفهّامة والبحر العلاّمة. كان ذلك بعيد اغتيال الشهيد رفيق الحريري في بيروت عام 2005، ووصول المحقق الدولي ديتليف مِلِس، وتهديدات الرئيس الفرنسي وقتها جاك شيراك لرأس النظام في سورية.
كانت كل المؤشرات تؤكد أن أركان النظام هم من ارتكب هذه الجريمة، بدءاً من شريط أبو عدس، إلى نوع وكمية المتفجرات، إلى الشاحنة المستخدمة في العملية وخط سيرها، إلى طمس آثار الجريمة من قبل الجهات الموالية للنظام في السلطة اللبنانية التي كانت تُمسك بالقرار الأمني في ذلك الوقت، وصولاً إلى تتبع الخيط الأول في كل جريمة ألا وهو البحث عن المستفيد.
في تلك الفترة، كنت قد تنطعت على مستوى المعارف والأصدقاء في دائرتي الضيقة إلى لعب دور المحلل الاستراتيجي وروّجت لقراءةٍ سياسيةٍ قانونيةٍ مفادها أن هذا النظام سيدفع ثمن فعلته، وأنه عاجلاً غير آجل، سيُساق إلى محكمة العدل الدولية في لاهاي، هو وكل من والاه، “قشة لفة”.
كان غريمي في هذه القصة قارئ عدادات الكهرباء في حارتنا، صاحب الوجه الخالي من الملامح، الذي يستعصي فك طلاسمه حتى على عتاة خبراء لغة الجسد. ومع أنه كان أبلهاً، إلا أن شخصيته لا تخلو من مسحة شيطانية، بعينين كَسَرتا كل قوانين التناظر في الطبيعة.
بدأت روايتي مع استلامي لفاتورة الكهرباء التي سطرها هذا الشرير والتي بلغت قيمتها ما يزيد عن ضعفي دخلي الشهري كأستاذ للرياضيات. وقعت في حيص وبيص، وارتفع عندي مستوى السكري، وتشوشت الرؤية، وكان على رأسي طير.
مسحت قاعدة حذائي في التجوال على الأصدقاء والمعارف من المهندسين العاملين في مؤسسة الكهرباء، لعلي أتمكن من الحصول على إعادة تقييم لقيمة الفاتورة أو حتى على تقسيط مبلغها. لم يدخر الشباب جهداً، ولكن لا حول ولا قوة، وكأني بتلك الفاتورة كتبت بحبر من فولاذ “مبولد”.
لملمت ما عندي وما عند من حولي من نقود وذهبت مكرهاً للدفع في مركز الجباية بحي المطار في درعا. هناك رأيت الشاب الذي عهدته طيباً، مبتسماً، ودوداً تكدست على طاولته أكوام من العملة من فئة ال 500 والـ 1000 الجديدة ذات الرقبة الطويلة، في حين تقبع كل آثار الفقر والبؤس على وجه ذلك الجولاني الضحوك.
أمام هذه المفارقة، ولأن الغرفة لا تحوي إلا كلينا، قلت له، وأنا حانق غاضب: “الشباب مو مطولين، بالكثير ثلاثة أشهر راح يشحطوهم للمحكمة الدولية”. أطلق ابتسامة يشوبها الخوف وبعد أن جال بنظره في أرجاء الغرفة ليتأكد من عدم وجود أحد غيرنا، ثم بادرته بالسؤال: “متى يتوجب عليك تسليم هذه المبالغ؟” فقال: “بعد ستة أشهر”. قلت له بين مزحٍ وجد: “خذ غنيمتك، أنت تستحقها أكثر من أولاد الكلب هؤلاء، وسيرحلون قبل الستة أشهر”. أنهى الحديث بابتسامته المعتادة واكتفى بالقول: “قولتك”.
بعد عدة أشهر، عُدتُ كي أدفع فاتورة أخرى، فتفاجأت بموظفٍ آخر يجلس مكانه، وبلهفة سألته عن ذلك الشاب، فأطرق رأسه، وقال: “المسكين بالسجن، لأنه شفط المصاري، وما سلمها”.
دفع الشاب ثمن فعلته، ودخل السجن، ولا يزال قتلة الحريري إلى يوم الناس هذا!
أيمن الأسود عضو الأمانة لتيار الغد السوري