منذ عقود قال وينستون تشرشل “في السياسة ليس هناك عدو دائم او صديق دائم هناك مصالح دائمة” وقبله قال نابليون بونابرت “إن قلب رجل الدولة يجب أن يكون في رأسه”، ربما هما المقولتين اللتين قد يشكلا خطوطا عريضة لبداية تصور حول الحل في سوريا.
قبل مئة عام تماما، قام العرب بأولى تجاربهم الثورية في تاريخهم الحديث لنيل الحرية والاستقلال من خلال الثورة العربية الكبرى، وعلى الرغم من نجاح الثورة في إنهاء حكم العثمانيين ووقوف العرب إلى جانب الطرف المنتصر، إلا أن جهلهم لحقيقة السياسة كما يراها تشرشل وبونابرت، وعدم إدراكهم أنها لا تدار بالنوايا وكلمات الشرف، أفرز لتلك الثورة نتائج كارثية أبرزها اتفاقية سايكس بيكو التي قسمتهم وشرذمتهم، فتحول الحلم إلى كابوس رغم أنه حقق هدفه الأساسي بالتخلص من الحكم العثماني.
تشابه المعطيات والظروف بين الثورة العربية الكبرى والثورة السورية من ناحية الجغرافية وتعدد الاطراف الدولية الفاعلة وتعاظم الدور الدولي، يدفع للقول بأن المعارضة السورية قد أخطأت عندما وضعت كامل مصالحها في سلة الغرب الذي لم يقدم إلى اليوم أي دعم ملموس للثورة السورية رغم مرور ست سنوات من المعاناة والمآسي والوعود، الأمر الذي يفرض عليها، وأقصد المعارضة أن تنظر إلى السياسة كما يراها تشرشل ووفق منطق رجل الدولة كما يراه بونابرت بعيدا عن منطق الرغبات والمشاعر، لاسيما وان مهمتها تجاوزت اسقاط النظام إلى الحفاظ على وحدة البلاد من تكرار سيناريو سايكس بيكو في سوريا، خاصة وأتها تواجه نظاما مستعدا لفعل أي شيء مقابل الحفاظ على الحكم حتى وإن أشعل المنطقة أو قسمها.
لو أعدنا تقييم المشهد السوري حلال ست سنوات ونظرنا إليه بعين المراقب الحيادية، فإن كافة المعطيات تشير إلى صعوبة الحسم العسكري لصالح الثورة وضرورة الاتجاه إلى التسوية السياسية وفق منطق المصالح، وذلك بناءا على عدة أمور، أهمها التدخل الروسي المباشر في سوريا، والذي وضع الثوار في معركة غير متكافئة لاسيما في ظل الدعم الغربي الهزيل جدا للفصائل المقاتلة الخالي من أي سلاح نوعي يحقق شيئا من توازن القوى، بالإضافة إلى ما يعانيه الثوار من حالة شرذمة وغياب القيادة الموحدة، وتعدد الجهات التي يواجهونها من النظام إلى المرتزفة الإيرانية وتنظيمات متطرفة.
وعمليا، مهما تمكن الثوار من إلحاق خسائر سواء في الأرواح أو العتاد خلال المعارك، فإن كل تلك الخسائر “وأنا هنا لا أقلل من انجازات الثوار” لن تهز قوة روسيا أو تتسبب في هزيمتها اذا ما قارناها بالقوة العسكرية الفعلية للجيش الروسي الذي يعتبر من أقوى جيوش العالم، وبالتالي فإن التفكير بامكانية تكرار سيناريو أفغانستان والاتحاد السوفياتي والحديث عن هزيمة عسكرية روسية في سوريا لا يتجاوز كونه حديث عواطف وأماني.
بعيدا عن موازين القوى العسكرية، فإن الحقيقة التي لا يمكن انكارها أن سوريا اليوم لم تعد قادرة على تحمل مزيدا من أعباء الحرب قي ظل تعاظم المأساة الإنسانية في الداخل والخارج على حد سواء، مع تجاوز أعداد الشهداء النصف مليون شهيد، وملايين الجرحى والمشردين والأيتام، إلى جانب ارتفاع معدلات الدمار إلى 90 في المئة ببعض المدن، وانهيار الاقتصاد وتسجيل العملة المحلية انهيارا تاريخيا مصحوبا بارتفاع معدلات الفقر التي بلغت وفقا للمركز السوري لبحوث السياسات إلى 85 في المئة، ومعدلات البطالة إلى 70 في المئة، وهي الأمور التي تحتم ضرورة الدخول في سباق مع الزمن لايجاد حل سينهي تلك المآسي، لا سيما وأن نظام الأسد غير آبه لما تتعرض له البلاد ومستعد لاكمال حربه إلى مالا نهاية طالما انها ستبقيه في السلطة، خاصة أن كل الأثمان تدفع من جيوب السوريين دما ومآسٍ وأرزاق.
أما بالحديث عن أطراف الحل السياسي، فلا يمكن استثناء روسيا على المبدأ العربي القائل “داويها بالتي كانت هي الداء”، وحقيقة أن الموقف الروسي يمثل أهمية بالغة في إمكانية التوصل إلى حل سياسي وذلك بغض النظر عن موقفنا منها، فالجميع يعلم الدور الروسي في استمرار نظام حكم الأسد حتى اليوم، ما يعني أن تبدل الموقف الروسي سيمثل المسمار الأخير في نعش الأسد سياسيا، بغض النظر عن الموقف الإيراني الذي لن يكون له أهمية في ظل التبدلات الروسية، ناهيك عن الدور الذي لعبه ترهل وعدم جدية إدارة باراك أوباما في التعامل مع الملف السوري في تعاظم موقع روسيا ضمن معادلة الحل.
قائمة ضرورات سحب البساط الروسي من تحت الأسد لا تتوقف فقط عند حد اسقاطه، وإنما تمتد حتى إلى مرحلة ما بعد اسقاطه، فحفاظها على مصالحها الاستراتيجية في سوريا يدفعها للعب دورا في استقرار الأوضاع فيها، كما لعبت في السابق دورا في استقرار نظام حافظ الأسد ونقل الحكم إلى بشار الأسد، وهو الشيء الذي يعتبر أكثر ما تحتاجه البلاد والنظام البديل في علاج آثار حرب نظام الأسد لاسيما ملفات إعادة الإعمار وعودة اللاجئين، خاصة مع وجود بعض الاطراف التي قد تسعى إلى إيقاع سوريا في آتون حرب أهلية كإيران التي تمتلك على الأرض السورية آلاف المرتزفة، بالإضافة إلى وجود فوضى سلاح وتنظيمات متطرفة ترفض قيام الدولة المدنية الديمقراطية.
أما حول إمكانية قبول روسيا للتفاوض مع المعارضة والتخلي عن بشار الأسد، فقد ظهر ذلك جليا عبر تصريحات المسؤولين الروس والتي كان آخرها تصريحات وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف الذي تحدث فيها عن أن الحل السياسي في سوريا ممكن، وهو التصريح الذي سبقه لافروف بالتأكيد على أن بلاده ليست صديقة للأسد ولا حليفة له، وما تبع ذلك من تأكيد نائب وزير الخارجية الروسي غينادي غاتيلوف أن روسيا لا تعتبر بقاء الأسد في السلطة شرطا مسبقا للتسوية في سورية،ناهيك عن توجيه موسكو الكثير من الدعوات للمعارضة السورية ممثلةَ بالائتلاف وبعض التيارات السياسية التي تمثل المعارضة الثورية في الخارج.
أما بالنسبة للتدخل العسكري المباشر فهو لم يكن بهدف دعم الأسد بقدر ما هو خطوة لفصل المصالح الروسية عن شخص بشار الأسد ونظامه بالإضافة إلى الرغبة الروسية باظهار أهمية دورها في سوريا، لاسيما وأنها اتبعت التدخل بهدنة أجبرت خلالها الأسد على احترام وقف اطلاق النار لفترة من الزمن، وهو أيضا ما أرادت روسيا من خلاله إيضاح قدرتها على فرض أي تسوية تناسبها على الأسد وحلفائه بمن فيهم إيران التي بدأت حديثا تعبر علانية عن استيائها من الموقف الروسي.
تبقى النقطة الأهم التي يجب توضيحها أن روسيا لا تهتم كثيرا بشخص رأس النظام بقدر اهتمامها بسياسات النظام الخارجية، وهو ما أكده الفريق فلاديمير فيودروف الملحق العسكري السابق في دمشق ومهندس عملية نقل السلطة إلى بشار الأسد، والذي قال صراحة إن روسيا لم تختر بشار الأسد لشخصه، وإنما رغبة باستمرار السياسة الخارجية لسوريا المنفتحة على موسكو، خاصة في مجال الصناعات العسكرية والمصالح الاستراتيجية، على اعتبار أن سوريا تمثل نقطة الوصول الوحيدة لاسطول روسيا إلى المياه الدافئة، والمركز العسكري الوحيد خلف خطوط الدرع الصاروخية الأمريكية التي ترى فيها تهديدا مباشرا لاراضيها، بالاضافة إلى المصالح التجارية والاقتصادية.
هنا لا بد من التنويه، أن الاقرار بقوة الموقف الروسي لا يعني نقل المعارضة لمصالحها إلى السلة الروسية، وإنما أن تسعى لموازنة المصالح السياسية بما يخدم أهداف الثورة السورية، خاصة مع وجود الكثير من الدول التي يمثل سقوط الأسد بالنسبة لها مصلحة استراتيجية كالسعودية مثلا التي تعتبر صاحبة الموقف الأكثر تشددا حيال ضرورة اسقاط النظام في سوريا.
حسام يوسف
خاص تيار الغد السوري