إذا كانت بعض الأحداث الإرهابية التي وقعت مؤخرا في اسطنبول ساهمت في تأمين التبريرات لتحول في السياسة الخارجية التركية، فإن التساؤلات تزداد عما إذا كانت أحداث فرنسا التي تجددت في عمل إرهابي في “نيس” ستشكل مبررا لتحول ما، وخصوصا أن التفجير الأخير حصل إبان لقاءات لوزير الخارجية الأمريكي جون كيري في روسيا حول التعاون ضد التنظيمات الارهابية في سوريا.
وتكشف مصادر ديبلوماسية أن التفسيرات التي أعطيت لموقف رئيس الوزراء التركي بن علي يلدريم في شأن استعادة بلاده العلاقات مع دمشق، لم تكن بعيدة من الواقع، ولو صدرت مواقف تنفي بعض هذه التفسيرات، أو توضيحات تزيد الصورة التباسا في ضوء اعلان رئيس الوزراء التركي ان لا حل في سوريا، ولن يزول خطر التنظيمات المتشددة ما دام الأسد في السلطة.
وتتحدث هذه المصادر عن تبلغ المعارضة السورية التغيير في الموقف التركي منذ قرابة أربعة أشهر، خصوصا وأن هذا التبليغ شمل وقف تركيا تقديم الدعم للمعارضة. وتاليا، فإن المسألة ليست جديدة، وتؤشر لمتغيرات تظهر بعض دلالاتها، إلا أنها تحتاج إلى الوقت لكي تظهر على نحو أقوى وأوضح، علما أن المعارضة السورية بدأت تشكو تراجع المساعدة لها من فرقاء إقليميين أيضا، مما يثير اسئلة كبيرة حول اتجاهات الامور على هذا الصعيد.
وبحسب هذه المصادر، فإن الاتصالات الأمريكية – الروسية التي تمثلت بزيارة وزير الخارجية الأمريكي جون كيري لموسكو ولقائه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين تظهر أن الحاجة كانت ماسة إلى التواصل على مستوى أعلى من الذي يتم التواصل على اساسه بين الجانبين. فالزيارة السابقة لكيري لموسكو في آذار الماضي أدت إلى إعلان الاتفاق على العملية السياسية في سوريا، على أن يكون هناك جدول زمني ومسودة لدستور جديد بداية آب/أغسطس المقبل.
ومع أن كيري كان تساهل لجهة تحديد بداية آب/أغسطس موعدا للإعلان عن دستور سوري جديد، معلنا آن آب هو هدف وليس مهلة نهائية للاتفاق على العملية الانتقالية في سوريا، فإن المصادر المعنية تدرج من بين أهداف زيارته لموسكو، محاولة إظهار الالتزام بهذا الموعد، ولو كمحطة على طريق العملية السياسية، أو إمكان استئنافها، لئلا يظهر أن المواقف الأخيرة التي أطلقها على هذا الصعيد كانت واهية، أو أنه لم يلاحق التعهدات التي أخذها على عاتقه، فضلا عن أن إمكان السماح بسقوط حلب سيكون مؤشرا خطيرا سيلاحق إدارة أوباما.
ومعلوم أن إتاحة المجال امام استعادة الفلوجة مثلا تثقل على الأمريكيين بعد ما حصل فيها، بحيث أثارت اسئلة قوية عمن يشغل مكان “داعش”، في الوقت الذي يساعد الأمريكيون في تحرير بعض المناطق من هذا التنظيم، وهل سيقبلون بتمكين النظام من استعادتها في ظل عدم وجود اجابات واضحة عن اليوم التالي؟
ومن ضمن هذا الإطار تنظر المصادر المعنية إلى التطورات الميدانية في حلب والاتجاه إلى تضييق الحصار عليها، على أنها ربما تكون محفزة في احد اتجاهين: الاول ان تشكل التطورات حول حلب ضرورة ملحة وذريعة للعودة إلى استئناف العملية السياسية التي كانت توقفت في أواخر نيسان/أبريل الماضي، خصوصا أن استئناف العملية السياسية كانت ربطت باتفاق كل من الولايات المتحدة وروسيا على رؤية مشتركة بينهما للانتقال السياسي، والاتجاه الثاني ان تكون احداث حلب المتجددة هي الطريق إلى تطورات مأسوية لن يكون ممكنا بعدها استئناف العملية السياسية بسهولة استنادا إلى أنها كانت كما في كل الجولات السابقة للتضييق أو الحرب عليها، المحفز لاتصالات سياسية أو لمواقف قاسية، وهو ما يعني أنها تستخدم وقودا يوظف لغايات لا تتصل بها مباشرة.
ومع أن بعض المؤشرات الاخيرة التي برزت قد تساهم في تعنت رئيس النظام السوري بغض النظر عن مدى اهميتها أو تأثيرها، لكنه يمكن ان يتمسك بأي مؤشر قد يعزز موقعه، كزيارة وفد برلماني أوروبي أو الموقف التركي الذي يلمح إلى امكان التطبيع مع دمشق، والاكثر أهمية في رأي المصادر المعنية ما قد يتفق عليه كل من الولايات المتحدة وروسيا، ابعد من التعاون ضد “داعش” و”النصرة”، والذي أفيد أن كيري حمله معه إلى محادثاته مع بوتين ونظيره سيرغي لافروف، خصوصا أن ثمة ملفا آخر على جدول أعمال محادثات كيري في موسكو هو موضوع اوكرانيا. وفي الملف السوري، وإن يكن الروس يكررون أن مسألة وقف الحرب ومصير الأسد في يد السوريين، فإن واقع الأمور أن ما يتم الاتفاق عليه بين الأمريكيين والروس هو ما يمكن أن يشكل الأساس لأي اتفاق، إلى درجة تراجع أي مبادرة أو تحرك خارج الاتصالات الأمريكية – الروسية على هذا الصعيد، خصوصا أن أوروبا المغيبة أصلا باتت غائبة بفعل ما أصابها أخيرا.
وثمة آراء متشائمة حيال إمكان نجاح كيري في إرساء مرحلة جديدة من التعاون مع موسكو حول سوريا في الاشهر الاخيرة من ولاية الرئيس باراك أوباما، ومعه كيري، على رغم تضارب آراء الخبراء في هذا الإطار بين من يرى أن من مصلحة موسكو الحصول على أقصى ما يمكن الحصول عليه من الإدارة الأمريكية الحالية قبل مجيء إدارة جديدة قد لا تتسم بالمرونة نفسها ازاء الموقع الأمريكي من الأزمة السورية خصوصا في ضوء انتقادات شديدة لأوباما في هذا الصدد، ومن يرى أن موسكو وفق ما عهدها الجميع لن تقدم اي شيء لإدارة راحلة، وهي اصلا حسنت موقعها الدولي والإقليمي انطلاقا من تدخلها في سوريا وفرضت أمرا واقعا لا يمكن تجاهله.
النهار