هكذا بايعت “الهيئة العليا للمفاوضات” القاعدة

في ديوانه مديح الظل العالي، يستعرض محمود درويش تاريخ المحنة والتغريبة الفلسطينية، فيرثي بيروت المعشقوقة الأجمل، التي أصبحت ركاماً، فلم يعد له فيها مكاناً كي يستريح، “أعدي لي الأرض كي استريح.. فأني أحبك حتى التعب”.

يدرك المشرد واللاجئ محمود درويش، أنّ الأرض البيروتية لم يعد بإمكانها أنْ تحمل هموم الشعب الفلسطيني، فلقد أصبح الحلم كابوساً، وأصبحت معها بيروت أثراً بعد عين.

لم تعد بيروت بالنسبة لدرويش أرض الحلم، فالبرغم من يقينه بأنها “تعطي.. وتعطي.. وتعطي.. حتى تسأم من ذراعيها ومن شبق المحب”، إلا أنها أصبحت رويداً رويداً صراعاً و”حروباً للآخرين”.

ضاع الهدف قبل أن تسقط البندقية، واغتيلتْ أحلام الثورة، ولم يعد أمام الفلسطيني سوى الإصرار على الفكرة، وشرعنة أحلامه في الدولة الفلسطينية بثقافتها التاريخية.

اغتيلت أحلام الفلسطينين في بيروت، لكنها لم تغتال الثقافة الفلسطينية، الماثلة أمامنا إلى يومنا هذا. لذلك يختتم درويش مرثية مديح الظل العالي، بعبارة موجزة تفيض سخرية، وتحدٍ للدول التي استمرأت الدم الفلسطيني، بقوله: “ما أصغر الدولة.. ما أكبر الفكرة”.

هكذا أصبحت “الفكرة” بالنسبة للفلسطيني، موطئ القدم الأخير لمتابعة الحلم، الذي أصبح محكوماً بصراع تديره عواصمٍ من شمع، وتحاصره حدودٌ من حديد.

في الديوان ذاته، يلتف درويش حول الرمز الفلسطيني “أبو عمار”، كيف لا وهو الذي جعل من التغريبة الفلسطينية “قضية عالمية”، في المحافل الدولية، وعلى منبر الأمم المتحدة، فيمدحه الشاعر الذي لايجيد المدح، ويطلق له عنان القول والفعل: “كم كنت وحدك يا ابن أمي.. كم كنت وحدك”، بعد أنْ سئم الشعب الفلسطيني موته العلني، وأصبح “القمح مرٌ في حقول الآخرين”.
حين انهار المُلك أمام أعين عبد الرحمن الداخل، وأيقن أنه مهزومٌ لامحالة، لم يلتفت إلى الوراء، ولم يبكي الحاضر.. لم يقم بثورة أو تمرد، كما لم يتحالف مع الشيطان للحصول على مكسب هنا، ومغنمة هناك، لكنه حمل معه “فكرة” الدولة الأموية وزهوها، فلملم أحلامه بواقعيةِ القادر على إعادة المُلك بأزهى وأبهى مما كان.

سار صقر قريش على وصايا جده، مؤسس الدولة الأموية معاوية بن أبي سفيان القائل: “القوة للمُلك وليست للقتال”، فقد أصبح القتال “مقتلة”، وأصبحتْ النجاة بالحلم واقعاً يقتضي استعادة مايمكن استعادته من الوهج الأموي، فانسحب بهدوء أمام حمى الموت اليومي للأمويين، معترفاً إنها إنْ أقبلتْ -في سياقها- لاتدبر.

مقدمة نستحضر من خلالها بعضاً من تاريخنا كواقعة ومعنى، فالطالما اتهمنا “هنري كيسنجر” -نحن العرب- بأننا لانفهم معنى التاريخ، وأننا خاسرون، ونطالب بما يطلبه المنتصر!..

الآن، كلنا كسوريين موحدين فقط بالتشويش الذي يغلف عقولنا وإرادتنا؛ إلا أنّ ما نعيه تماماً أنّ أحلامنا سُرقت.. نعم سُرقت دون أنْ يعني ذلك، عدم قدرتنا -كشعب- على استعادة سورية كفكرة، وشتان بين من يعمل للفكرة، وبين من يعمل على اغتيالها، أو يقدمها فريسة لجماعات وتنظيمات لا تؤمن في صلب إيديولوجياتها بفكرة الوطن.

بعد ست سنوات من الجحيم، مازال السوري بريئاً، يتابع بشغف أداء ممثليه، ولطالما استبشر خيراً بمن ساقوا له أدوات الحل السياسي عبر “هيئة عليا للمفاوضات”، قيل عنها أنها تنأى بنفسها عن المهاترات الصبيانية، وتضم في جنباتها سياسيين معتقين، يحملون بعداً مدنياً.. إلا أنّ ماحصل كان خلاف ذلك، بل وعجزت في أنْ تحافظ على مكتسبات سابقيها، قبل أنْ تقع في فخ جديد وضع البلاد والعباد أمام تداعيات لاتبقي ولاتذر، فما أنْ أعلنت جبهة النصرة، انفكاكها الصوري عن تنظيم القاعدة، بادرت الهيئة العليا للمفاوضات، ولحقها “الإخوان المسلمين” بالترحيب والتهليل والمباركة لعملية فك ارتباط النصرة عن القاعدة، الأمر الذي أعاد السوريين إلى مربع صراع يُعد العدة لدولة الخلافة، بتأييد و”مبايعة” من الممثل الحصري للحل السياسي في جنيف.
في حيثيات “المخالعة” بين القاعدة والنصرة، فإن مسألة فتح آفاق جديدة لجبهة النصرة، بعد أنْ تقطعت بها السبل، تتقدم جميع الأولويات، فالتنظيم الذي يقبع كبديل وحيد يسد الفراغ بعد داعش، أصبح وريثاً مشرعناً بامتياز.

وفي خضم لحظة تاريخية بين القوى المعنية، التي بدأت العمل على فك الفصائل المشمولة بالقرار 2254 عن تلك التنظيمات غير المشمولة فيه، تمهيداً لتنفيذ القرار الأممي ومتابعة العملية السياسية، جاء قرار الظواهري ليأذن لفرعه الشامي بفك الارتباط، والتماهي داخل الجسم المعارض المنوط به الحل السياسي.

قبل هذا التاريخ، لم تتمكن الهيئة العليا للمفاوضات من طرح عملية الفصل على أقل تقدير، والمطالبة بذلك قبل الذهاب إلى المحادثات، كمطلب شرعي متفق عليه من الجميع، لكن الهيئة سارت وكأنها ذاهبة إلى حفلة تنكرية، أو منصات إعلامية لصناعة النجوم، وهو الخطأ القاتل الذي دفعت ثمنه حلب، حبن وجد النظام في ذلك فرصة لحرق الأخضر واليابس الحلبي، بحجة وجود إرهابيين، وهو ما اعترفت بها الدولتان الراعيتان الولايات المتحدة وروسيا.

هكذا جاءت “المخالعة” بين الأب الروحي وابنه، جزءاً ثانياً من سيناريو اغتيال الحلم السوري، حين أذِنَ -على العلن- الأب الشرعي بفك الارتباط “التنظيمي”، والعمل بمبدأ “فدرلة” العمل الجهادي، في استحضار تاريخي لفخ الأسماء والتحولات، التي أصبحت عملية تكتيكية لتمكين مسيرة “الجهاد العالمي”، من خلال الانشطار، والتوالد، كخاصية في جميع الحركات الإسلامية.

وكما يظهر زعيم تنظيم القاعدة ليُجيز ويتفهم موقف النصرة -فرعه الأغلى في قاعدة الجهاد الشامي- يبادلة التلاميذ النجباء الأداء ذاته، بمصداقية الطرح كأمانة أمام أجيال الخلافة الذين يُنتظر تصنيعهم كأمناء على أدبيات “القاعدة الأم”، التي لن تحيد -في مستقبل سورية- عن إخراج وتكفير كل من لايؤمن بهم، وفي مقدمتهم “علمانيو” الهيئة العليا للمفاوضات.

خطة قميئة يقودها رعاة الإسلام السياسي الإقليميون بتواطؤ دولي واضح، وأداء هزيل لمسرحية فاشلة، تهزأ بعقول السوريين، وتستخف بتضحياتهم الجسام، والأدهى من ذلك أنّ الخطوة لم تأت كمبادرة من جبهة النصرة، لكنها كانت فكرة سابقة طرحها الظواهري، حين ظهر الأخير بتاريخ 8/ 5/ 2016، في حديث صوتي على قناة الجزيرة قال فيه: “إن انتماء جبهة النصرة تنظيمياً للقاعدة، لن يكون عائق، في وجه الآمال العظيمة للأمة.. وإذا اختار المسلمون في بلاد الشام حكومة مسلمة، وإماماً لهم، فإن هذا الاختيار هو اختيار القاعدة”.

بينما اعتبر مدير مكتب الجزيرة السابق في باكستان أحمد زيدان “إنّ تسجيل الظواهري ينطوي على رسالتين هما النفير في سورية لدعم الثورة هناك في ظل التدخل الإيراني المكشوف، والرسالة الثانية -وهي الأهم- أنّ جبهة النصرة ستكون في حلٍّ من ارتباطها التنظيمي بالقاعدة إذا أقام مجاهدو الشام إمارة إسلامية في سوريا”.

يتابع زيدان في الحديث ذاته الذي مازال موجوداً على موقع الجزيرة نت “أنّ هناك معلومات تفيد بأن هناك اتصالات بين جبهة النصرة، وبعض مجاهدي الشمال من أجل تشكيل كيان سياسي في الشمال السوري، وقد أبدت الجبهة -المصنفة دولياً منظمة إرهابية- استعدادها لفك ارتباطها مع القاعدة من أجل تشكيل هذا الكيان الأشبه بدولة”.

إذاً، هذا هو المطلوب لسورية، دعوةٌ واستنفار لجميع المجاهدين للبدء بـ”كيان أشبه بالدولة”، حسب ما أسماه الظواهري. وهو الكيان ذاته الذي جاء بعد ترحيب “الهيئة” ليكون خليطاً بين فرع القاعدة باسمها الحركي الجديد، وبين الهيئة العليا للمفاوضات، مشترطاً -أي الظواهري- على المجاهدين إقامة حكومة إسلامية وإمارة في بلاد الشام”،على حد قوله.

إذاً، تمر المحنة السورية الآن، بمرحلة يراد منها تأسيس ما أسماه الظواهري، بأنه ” كيان أشبه بالدولة”، يسبق الحكومة الإسلامية، التي ستتمثل فيها المعارضة والقاعدة والنصرة والهيئة والإخوان، لذلك تبدو الطبخة ممزوجة بشروط الظواهري، وترحيب الهيئة، وتهليل الإخوان، بينما ظهر أبرز قيادي القاعدة “أبو الفرج المصري” إلى جانب الجولاني، يلقي البيان رقم 1 للشروع بتأسيس الإمارة الإسلامية في سورية؟؟!!.

ما أريده مما تقدم، هو التوقف عند نقطة مفصلية من تاريخ حلمنا السوري.. حلمنا الذي أصبح الآن مهدداً بالاغتيال، أكثر من أي وقت مضى، مايضعنا في أتون استعصاء جديد أشد وطأة من سابقاته، ليجعلنا جميعاً كسوريين مجرد “وليمة لأعشاب البحر”.

هكذا يتكرر السيناريو اللبناني والليبي والعراقي واليمني؛ وبذات الأفكار والممثليين والمنتجين، والمخرجين، في فارق وحيد أنهم يكتبون للسوريين سيناريو علني، يجعلنا أمام تاريخ بذاكرة مثقوبة، فكم من تجارب أفرزها الحصاد الهزيل للربيع العربي، كان وراءها ذلك التزاوج الخبيث بين شهوة المال وشهوة النفوذ والسلطة.

لهذا كله، تقف سورية الآن أمام احتمالين لاثالث لهما، إما إطالة أمد الصراع إلى أنْ يُقدر الله أمراً كان مفعولا، وإما تقسيم سورية إلى إمارات بين الإسلاميين والمعتدلين والنظام، مايمهد لسورية الفاشلة كصناعة محلية باستثمار إقليمي ودولي.

لا أدري لماذا كل هذا الإصرار على استنساخ التوائم السيامية في كل مرحلة من مراحل الصراع في سورية. فقبل هذا التاريخ أحدثتْ لعبة القمار الإقليمية ذاتها، خللاً داخل بنية الائتلاف ذاته، ولعل الانسحاب الهادئ لرئيس الائتلاف السوري السابق أحمد الجربا من الائتلاف، الدليل الأمضى على ذلك، بعد أن قاد الأخير المعارضة السورية في أوج المد العسكري للجيش الحر، فكان “الشاهد الملك” على تفاصيل ماجرى ويجري، حين التقى خلال فترة رئاسته للائتلاف 2012- 2014 برؤساء ومسؤولي الدول الإقليمية والأوروبية، كما التقى الرئيس الأمريكي باراك أوباما، في فترة كانت فيها المواقف الدولية تجنح لدعم الاعتدال في سورية، قبل أنْ “يتأسلم” الصراع ويصبح خطراً عالمياً، تراجعت معه مجموعات الدعم، وأصبح أصدقاء سورية وأعدائها سواء.

هكذا خلع الجربا معطف الائتلاف الذي أصبح مرتهناً بواقع جديد، لم يعد فيه للاعتدال مكاناً، سواء على الصعيد السياسي أو العسكري. ولهذا كله نأى عن طاولة القمار الإقليمية، معلناً من القاهرة عن تأسيس تياره الجديد، الذي أطلق عليه “تيار الغد السوري”، في افتراق واضح عن عقلية تدجين المعارضة السورية إسلاموياً، وهو ما أعلن عنه بصراحة في مؤتمر تأسيس التيار، الذي تبنى فيه “فكرة” مدنية الدولة السورية، واستعادتها بدءً من القضاء على “داعش وأخواتها”، على حد تعبيره.

من هنا، يصبح السوريون، أمام استحقاقات “الفكرة”.. فكرة الدولة السورية المدنية التعددية، التي قدم شعبها على مذبح الحرية، أعظم التضحيات في التاريخ البشري، مدركاً في ذلك أنّ المعضلات الكبيرة هي الفرصة الأنسب للحلول الكبيرة.

د. محمد خالد الشاكر. مكتب الدراسات في تيار الغد السوري

تعليقات الفيسبوك