استحوذت التحضيرات لانعقاد مؤتمر جنيف في نسخته الرابعة، الأسبوع القادم، اهتمام الدوائر المعنية بالمسالة السورية، من منظمات ومؤسسات دولية وحكومات، إلى قوى المعارضات السورية، على اختلاف مسمياتها وبنياتها. وأضحت مسألة اختيار الوفود، تتجاوز البحث في أساسيات جنيف، دوافع انعقاده، ومبادئ التفاوض، وعلام يجب/ أو يمكن التفاوض عليه. وبلغت الخلافات درجة متقدمة بين الاطراف الراعية، لينسحب ذلك بصورة تلقائية على المشهد السوري –في ظل الهشاشة الراهنة– التي تنذر بمزيد من التشظي الذي يقود الى فشل جديد، مع تعثر اجتماع استانا الأخير، بخاصة وان مقومات نجاح أية عملية سياسية غير متوفرة حتى اليوم، لدى جميع الأطراف.
تحاول موسكو انتزاع أي صيغة ممكنة لاحتواء العملية السياسية، عبر لقاءات أستانا وأنقرة، بما يمكنها من التأثير على جدول أعمال ومسار جنيف 4، لكن مراميها غير قابلة للتحقق، بسبب عدم تمكن الأطراف الضامنة حتى الآن، من تثبيت الهدنة على كافة المناطق، الأمر الذي يمنع مناقشة أي ملفات سياسية، الدستورالمقترح مثالاً. ولعل تأجيل ديمستورا لمفاوضات جنيف لأيام، يستهدف منح مزيد من الوقت لموسكو، لمواصلة ضغطها باتجاه التوقيع على وثائق سياسية، لتجعل منها إطار تفاهم في جنيف، دون أن يتحقق أي تراجع في مواقف النظام وداعميه، وفي غياب أية مؤشرات لبناء الثقة.
يجري ذلك في ظل انشغال كبير عما يجري على الأرض السورية، في سياق اتجاهات رئيسة ثلاث، أولاها استمرار خرق وقف إطلاق النار من طرف موسكو – نظام الأسدية، معارك حوران، والحرب على داعش. وفي الواقع فإن اجواء التحضيرات لجنيف و أستانا، أبعدت الأنظار كليّاً عما تقترفه آلة القتل الروسية – الأسدية خاصة في درعا –بغض النظر عن السجال العقيم حول توقيت وأهداف هجوم المعارضة- حيث يعاد فيها سيناريو الأسابيع الأخيرة في حلب، من حيث استهداف البنى التحتية وخاصة المشافي، وتدميرها بشكل ممنهج، مع السعي لتطويق المناطق المشتعلة بغية عزلها والاستفراد بها. وهي الاستراتيجية التي نفذها النظام في جميع المناطق. ويبدو أننا أمام جريمة كبرى جديدة ترتكب بحق حوران، قبيل الوصول إلى جنيف4.
أما الحرب على داعش، فإنها تعكس عمق الخلافات التي تتبدى مع كل إنجاز جديد يتحقق في التضييق على تنظيم الدولة، ويحرر المناطق من سيطرتها. معركة الباب ومن قبلها جرابلس، أدت إلى احتكاك مباشر للنوايا ولمخططات روسيا والنظام، للانقضاض على المناطق المحررة، سيما وأن تحجيماً فعالاً لقوات صالح مسلم، غرب الفرات، يترافق مع الحرب على داعش. وفي الوقت نفسه يعزز إمكانية الشراكة الأمريكية – التركية في معركة الرقة، الأمر الذي قد يقود لاحقاً الى إنشاء مناطق آمنة على الأرض، دون إعلان، برعاية أمريكية ودور تركي وتمويل خليجي.
لقد فرضت عملية “درع الفرات” تغييراً مهماً في رؤية واشنطن لجهة مشاركة تركيا وفصائل الجيش الحر في معركة الرقة، كطرف أساسي، باعتبارها استحقاقاً ناجماً عن التحولات التي احدثتها في الباب وجوارها، وهو ما ينعكس بصورة مباشرة على معركة تحرير الرقة، والتي تدخل مرحلة جديدة، اتسمت بمؤشرين مهمين هما: الاستهداف المحقق لمواقع للتنظيم التي طالما تجنب النظام والتحالف الدولي قصفها، والأمر الثاني هو الانتشار الذي تقوم به داعش، ويقوم على ترحيل قيادات مهمة خارج الرقة، ما يعني أن تنظيم الدولة الإسلامية يدرك أنه بات يواجه تحدياً كبيراً يجبره على الانسحاب من الرقة –كخيار بديل عن المواجهة- باتجاه الشرق، خاصة بعد خسارته للطبقة وتدمير جسور الفرات.
الجانب الإنساني غائب تماماً في كل التحضيرات والتفاهمات، والخلافات القائمة اليوم، فالمآسي تجاوزت حدودة الذروة المفترضة، فمع اشتداد إوار القصف والتدمير، يتم إقفال الحدود في وجه الجرحى، ويستمر حصار المدن والمناطق، ومنع إدخال مواد الإغاثة الأساسية، عدا عن كون جميع الأطراف تستهدف تدمير البنى التحتية، وتستخدم مقذوفات محرمة دولية، وينطبق ذلك على روسيا والنظام والولايات المتحدة، التي أقرت مؤخراً باستخدام اليورانيوم المنضب في حربها على داعش، وهو ماتظهره عملية تدمير مبنى المحافظة في الرقة، بصورة جليّة.
المدنيون هم حتى الآن اكثر الضحايا تضرراً في الحرب على الإرهاب، وفي كل الحروب الصغيرة الأخرى، وهم الذين يتضررون من حصار داعش والتضييق عليها، ومن تدمير الجسور، ومن التهجير ومحاولات التجنيد القسري التي تقوم بها قوات “قسد” شمالي الرقة.
الحرب على داعش، تجري على إيقاع الجهود السياسية المتعثرة، وانعكاس خلافات الأطراف، في تحقيق مصالح وأهداف سياسية، تجري محاولة حسمه على الأرض، هناك، حيث لا أحد ينصت الى صوت الضحايا، ولا أحد يكترث بالمجازر اليومية، ولا أحد يقرّ بحق ملاحقة ومحاسبة مجرمي الحرب، مع الاعتقاد الذي يترسخ بأن جنيف 4 لن يختلف عن سابقاته، لأن إشكاليات الأطراف ومعادلات الصراع ودرجة الاستعداد للدخول في عملية سياسية لم تتغير بعد. وأي تغيير يبقى مرتهناً بتحالفات القوى الإقليمية والدولية، وبخاصة موقف إدارة ترامب من المسألة السورية.
عبدالرحمن مطر