كانوا نياماً، عندما اعتلى القناص تلك العمارة التي توقف العمل على إكسائها قبل سنين عديدة وباتت مرتعاً لمغامرات بعض العشاق بين وقت وآخر… الكل يحاول أن يتعرف على ذلك الوجه وراء دشمةٍ شديدة التحصين دون جدوى، فالبناء عال والخشية من أن تقع العين على العين كبيرة.
كان رجال الحي يتجمعون في جنبات البيوت البعيدة عن نظره، وكانت النساء منهمكات في تحضير الطعام والتحسر على موسم العكوب والخبيزة الذي دونه مصاعب جمة، ذلك أنهن في حظر للتجوال، لم يعشن مثيلاً له من قبل.
كن يفترشن الرصيف أمام بيت أم محمد، العجوز الطيبة التي تحب اللمة، ولو كان بمقدوره أن يسمع أحاديثهن، كان عرف الكثير عن القرفة والجوز والحلاوة و”بيض” الخروف وكل ما يتعلق بالحمل والحيض والنفاس والحبات الزرق التي كان زوج مريم الذي بلغ من العمر عتياً يواظب على “بلعها”، وهي “يا خطي” تزوجته منذ شهر بعد وفاة زوجته الأولى التي هي أختها الكبرى ولم “تحبل” إلى الآن، ولا حياء في الدين، كما تقول دائما الحاجة أم تيسير، أو أم الدكتور، كما تحب أن يناديها أهل الحي. ولأنهن نسوة، سمحن لأنفسهن أن يتواجدن على مرأى من القناص، فمن غير المعقول أن يظن بهن الظنون، فأنى لهن أن يكن “مندسات” يعادين الوطن!.
أما الأطفال “الملاعين” فكانوا لا يأبهون به ويشيرون اليه آلاف المرات في اليوم لينذروا بعضهم بعضاً بأن العمارة لم تعد صالحة للعب أو للعبث بأعشاش الدوري.
مضى اليوم الأول.. صار القناص نادر الحركة حديث الساعة. كان المختفي الأكثر حضوراً: من أين يأكل؟ كيف يتحمل هذا البرد؟ هل هو متزوج؟ هل له أطفال؟ كيف شكله؟ من أين هو؟ هل هو سوري؟.
وصل الأمر بأم محمد إلى أن عزمت على أن تبعث له إبريق شاي مع أحد الصبية ليدفئ جوفه وهي تردد: “ياميمتي، كتلتو السقعة”، إلا أن ابنتها يسرى منعتها من فعل ذلك، من مبدأ “الباب يلي بيجيك منو الريح”. أم محمد رضخت لطلب ابنتها، لأن علاقتهما خاصة جداً وهي لا تحب أن “تكسر بخاطرها”. وقتها كانت يسرى في العقد الرابع من عمرها ولم تتزوج مع أنها مديرة المدرسة الابتدائية في الحي، وكانت على قدرٍ من الطيبة والسماحة والرصانة والجمال، يحبها الأطفال ويحترمها الكبار، ولا يغضبها سوى دعوة أمها لها بمناسبة وبغير مناسبة وعلى مسامع الجميع: “الله يبعثك ابن الحلال يا بنيتي ويستر عليكي”. بقاء يسرى بلا زواج كان غصة في قلب أم محمد، تلك العجوز التي عهدها الجميع تجلس معظم نهارها أمام بيتها تسقي الشاي والقهوة المرة للرائح والغادي وخصوصا الغرباء منهم، وتسأل كل امرأة تمر من الشارع: “حبلتي يمه؟”
مضى اليوم الثاني.. طال انتظار القناص وبدأ صبره بالنفاذ وسط البرد القارص، وربما قضَّت روائح الطبخ المنبعثة من بيوت الحي مضجعه، ولا بد أنه شعر بالوحدة هناك في برجه “العاجي”، فكل الناس لهم جيران وهو يقبع على سطحٍ لا تشاطره إياه سوى الرياح.
بدأ اليوم الثالث.. ربما لم تعد نساء الحي تشبه أمه، وربما لعب الأطفال أيقظ جروحا غائرة في طفولته، فهو على الأغلب كان الطفل الكسول في صفه، وكان يعتقد أن المعلمة ذات الشعر الأسود القصير والخال الجميل على خدها الأبيض لم تكن تحبه، وربما كانت زوجة أبيه توبخه كثيراً، في حين كان دوماً يحصل على العلامة الكاملة في الرماية وينال إعجاب مدربيه لمهارته في إصابة أهدافه بدقة.
أضحت ذاكرته خاوية إلا من ذكريات حقل الرمي، وأزيز الرصاص، وصور القائد الخالد، والإمبريالية، والرجعية، ودولة صغار الكسبة، والعمال، والفلاحين، وقدحت تعويذة “أسفل ومنتصف الهدف” زناد وطنيته.
أطلق لسبابته العنان، وكانت باكورة أهدافه.. “الإرهابية” أم محمد!.
أيمن الأسود. عضو الأمانة العامة لتيار الغد السوري