في انتظار الـ “جردون” !!

بالقرب من نوافذ ذلك القبو، كان الكبار والصغار يتجمعون بأعداد غفيرة، بانتظار “جردون” يقلهم إلى بيوتهم في الطرف الآخر من المدينة، ما جعل المكان يضيق بهم على رحابته، وخصوصا في ساعات الذروة.

راح السأم يأخذ منهم أيما مأخذ، وبدت علامات التأفف تظهر يوما بعد آخر.

ولأن وُلاةَ الأمر كانوا على الدوام في سعي حثيث للترفيه عن رعاياهم، وكي لا تشعر هذه الحشود الغفيرة بالضجر، قرروا جعل هذه البقعة كرنفالاً يومياً للتسلية والتربية على حدٍ سواء، في سابقةٍ فنيةٍ نادرة، لا تشبه إلا ما كان يُقدم على حلبات المسرح الروماني في قديم الزمان وسالف العصر والأوان، ولكن بنسخة ما بعد حداثية، قوامها الصوت فقط.

صراخ، وعويل، واعترافات تصل إلى درجة ما يجري داخل غرف النوم.

مع الأيام، وتكرار الوقوف لزمن قد يطول أحياناً، تتحول من مجرد مستمع إلى صاحب خبرة بالأصوات، وأعمار أصحابها، ومكان تلقيهم الضربات، والأدوات المستخدمة. فهذه “لبطة” على المحاشم، وتلك جلدة بالكبل الرباعي، أما الأخيرة فهي بين الصعق بالكهرباء والكرسي الألماني.

أحياناً، كنت تسمع “حفلات” أبطالها أطفال، “يتحدثون” بصوت عالٍ عن ما جنت أيديهم، فهذا متهم بسرقة دجاجة، وذاك باع “شحاطتين” جديدتين موديل نفس السنة، “خلنج”، كان سرقهما من بيت الجيران، ليدفع ثمن تذكرة لدخول السينما لأنه لا يستطيع أن يفوِّت فلم الكاراتيه لـ “بروسلي”.

أما ذاك الشاب، فقد رمق بنظرة وقحة بنت المساعد أبو حمرة، إذ لم يتمالك نفسه الأمارة بالسوء عند رؤية تنورتها القصيرة وساقيها اللتين كانتا أشبه بعامودي رخام مع “غمازة” فوق الركبة بقليل كأنها موضع إصبع في قرص جبنة بلدية.

ذلك الصبي الشقي ضُبِطَ متلبساً، وهو ينقش اسمه واسم حبيبته بالأحرف الإنكليزية. اتضح من صراخه، وصياح أبو حمرة، أنه ارتكب عدة جرائم: الحفر على خشب مقعده في المدرسة الإعدادية، والتطاول على شرف البنت، وثالثة الأثافي كانت الكتابة بلغة إمبريالية.

هذه المقاطع الصوتية كانت أشبه بالطقوس اليومية، شخصياتها حفنة من رجال وأطفال، لكن مستمعيها أكثر بكثير.

بعد كل قصة صوتية، تبدأ بسماع دقات قلبك، وتذهب تبحث في ذاكرتك عن فعلة ربما كنت ارتكبتها في غابر الأيام، كسرقة “زر” بندورة من دكان الحارة، أو عنقود عنب من أحد الكروم ، ثم تتمتم بكلمات أنت نفسك لا تفهمها، ربما كانت ضرباً من الاعتراف الخفي، أو على الأقل التدرب على البوح الإجباري، تسترق النظر إلى من هم بجوارك، تحاول أن تقرأ في وجوههم ما إذا كانوا “مستمتعين” مثلك بما تناهى إلى مسامعهم، فتكتشف أنهم مثلك، يتمتمون، دون أن تقع العيون على العيون، فالحيطة واجب!

تحاول جاهداً للهروب بذاكرتك عن هذه المعزوفة، تتذكر طنجرة الششبرك (أذان الشايب) التي تنتظرك في البيت، ولكن عبثاً، وفجأة يأتيك الإلهام، ويحضر إلى ذهنك عالم القرود و”اضرب المربوط، يخاف السايب”.

غالباً لن يأتي الـ”جردون”، وستضطر إلى متابعة طريقك على قدميك المتعبتين، نزولاً أولاً، لتصل بأدنى جهد إلى جسر وادي الزيدي، ليبدأ عنده طريق الجلجلة، الصاعد أبداً، إلى درعا البلد!.

أيمن الأسود عضو الأمانة العامة في تيار الغد السوري

تعليقات الفيسبوك

اضف تعليق