حدود التذمر الدبلوماسي الأمريكي بخصوص سوريا

الإحباط في وزارة الخارجية الأمريكية بلغ مبلغاً كبيراً، وليس عادياً أن يكتب ديبلوماسيون مذكرة اعتراض ويودعونها في قناة الاحتجاج الديبلوماسي أو في “ديسنت شانل”.

فالتهدئة في سوريا انهارت، وقصف مستشفيات حلب وإدلب هو انتهاك لكل المعايير الإنسانية، ناهيك بالقصف بالبراميل المتفجرة والسلاح الكيماوي، ومساعي الحل السياسي تراوح مكانها. فحكومة الأسد ترفض تقديم أي تنازلات، ولا تسمح بالإغاثة الغذائية ولا تلتزم قرارات مجلس الأمن. والأمريكيون هم شهود على كل ما يجرى. والسياسة الراهنة أخفقت والإخفاق ينتظرها لا محالة على الدوام. ولا تخرج رسالة الاحتجاج الديبلوماسي الأمريكي على الهدف الاستراتيجي الأمريكي، أي التفاوض على اتفاق ينهي الحرب الأهلية السورية.

وأرى أن الرسالة تعارض فحسب تكتيكات الإدارة الأمريكية، تلك التي تتوسل بها أو تحجم عن التوسل بها، وتوجه مذكرة الاعتراض رسالة مفادها أن الاتفاق السياسي وطي الحرب متعذران من غير ضغط أكبر على حكومة الأسد، فالإدارة الأمريكية تحتاج الى تكتيكات جديدة لضغط ناجع على النظام السوري.

وفي العراق، تعلمنا أن تغيير النظام ليس السبيل إلى تغيير سياسي إيجابي، ففي حرب أهلية، تمس الحاجة إلى مفاوضات بين المعارضة والحكومة، ومدار المسألة على سبل تحريك عجلة المفاوضات.

ومنذ توصلت وزيرة الخارجية كلينتون ونظيرها الروسي، سيرغي لافروف، إلى إعلان حزيران/يونيو 2012، لم تفلح سياسة الإدارة في توفير فرص النجاح. ولا أرغب في إلقاء لائمة هذا الإخفاق على أحد، سواء كان الرئيس أم غيره، فثمة خلافات قديمة في الإدارة الأمريكية حول كيفية التعامل مع الأزمة السورية، وليس الرئيس وحده من يتردد في اللجوء إلى كل ما في الإمكان للضغط (على الأسد).

والإحباط في رسالة الاحتجاج مرده إلى بقاء دعاة الهدف الاستراتيجي على دعوتهم من غير التوسل بأدوات لبلوغه (الهدف). والأمل ليس سياسة، ولا يجوز أن يكون ركن السياسة اليتيم إذا كانت ثمة نتائج سياسية كبرى تبلغ دول الـ “ناتو”. ومنذ نهاية الحرب العالمية الثانية، تنتهج الحكومات الأمريكية سياسة تدعو إلى وحدة أوروبا ودرء النزاعات الداخلية، وهذه السياسة تعود إلى عهد هاري ترومن (1945-1953): التحلي بالقوة، ومقاومة ضغوط موسكو وتفادي الانزلاق إلى مزيد من الحروب العالمية. واليوم، يطعن في وحدة أوروبا، ومشكلة اللاجئين من سوريا هي عامل بارز في الطعن هذا. وهذا الجانب من المسألة يتجاوز سوريا، ولم نتوقعه في 2012. ولا أخالف جون كيري الرأي. فهو يدرك أن الحاجة تمس إلى ضغط أكبر على الأسد.

ولا أرى أي مؤشرات إلى تغيير في السياسة الأمريكية في سوريا في المقابلتين الطويلتين، الأولى مع أوباما، والثانية مع (نائب مستشار الأمن القومي) بن رودس، ولن تخلف الرسالة الديبلوماسية أثراً عظيماً. وعصفت دوامة الحرب بانتفاضة شعبية تطالب بالتغيير في المؤسسة الأمنية السورية، وتحولت إلى نزاع دولي تشارك فيه قوى اقليمية ودولية، ودمرت شطراً كبيراً من سوريا، وزعزعت الحرب هذه استقرار دول أوروبية وولدت أشد أشكال التطرف الإسلاموي الخبيث.

وفي 2012، توقعنا في وزارة الخارجية أن تتفاقم الحرب وتنزلق أكثر إلى قاع الطائفية، ولكننا لم ندرك قدر تمسك الحكومة السورية بالسيطرة على دمشق وما هي مستعدة للإقدام عليه للحفاظ على الحكم. ولم يتوقع أحد أن نصف السوريين سينزح عن منازله، ولا تحول سيل اللاجئين الضخم إلى مشكلة تتهدد الحلفاء الاوروبيين. ولم نتوقع كذلك أن ينقسم “القاعدة”، ويلد تنظيماً أكثر تطرفاً يسيطر على شطر من شرق سوريا يمتد إلى داخل العراق.

وأدعو إلى سعي حثيث إلى مفاوضات على حكومة جديدة والتزام صبر استراتيجي في مكافحة “الدولة الإسلامية”. والإدارة الأمريكية تعتمد على الكرد في استعادة أراض من “الدولة”. وهذا أمر جيد ولكن سينثر بذور نزاع إتني بين السوريين العرب والسوريين الكرد. وتسلط مذكرة الاحتجاج الضوء على مسألة بارزة: لا يسع قصر المساعي على مكافحة “الدولة” استمالة عدد كاف من السوريين السنّة العرب وإرساء حل مستدام لجبه تحديات “الدولة” في سوريا. فالسوريون السنّة العرب يرون أن حكومة الأسد هي مشكلة أعظم من مشكلة “الدولة”. وتشير منظمات حقوق إنسان سورية إلى أن الحكومة قتلت من السوريين سبعة أضعاف ما قتل “داعش”. وفي 2018، يتوقع أن تستعاد الرقة من “داعش”، وقد يخسر التنظيم السيطرة على دير الزور. ولكن “الدولة” لن تزول (أو تأفل)، بل ستتحول إلى حركة تمرد.

ولا شك في أن الخطر هو انهيار النواة السنّية الوسطية المعتدلة، على نحو ما انهارت نواة الفلسطينيين الوسطية. ومغزى رسالة “قناة المعارضة أو الاحتجاج” (الأمريكية) هو: لا غنى عن استمالة السنّة العرب لإلحاق الهزيمة بـ “داعش”. والأسد غير راغب في حل انتقالي سياسي طالما هو يحسب انه قادر على نصر عسكري، ولو بعد عشرين عاماً. وقبل 11 شهراً، في تموز/يوليو 2015، كانت الأمور مختلفة، فالأسد يومها أعلن في خطاب إلى الأمة أن الجيش منهك، وأنه لا يملك عديداً كافياً من الجنود، وأن عدداً كبيراً من الجنود لم يلتحق بالخدمة، وقال إن الجيش غير قادر على استعادة كل المناطق وأنه مضطر إلى الانسحاب. وكانت قواته تنسحب من شمال غرب سوريا وجنوب سوريا وتتراجع أمام قوات المعارضة المعتدلة و“جبهة النصرة”، وليس أمام “الدولة”. وكان مركز بلاد العلويين في مرمى النيران، وأشار الخطاب إلى إدراكه أنه يخسر، ولكن التدخل الروسي بدأ بعد 5 أسابيع على الخطاب هذا، فتغيرت موازين القوى وانقلبت رأساً على عقب. فأعلن الأسد في خطابه الأخير: “لن نفاوض الإرهابيين وكل المعارضة المسلحة إرهابية”. والتحدي اليوم هو العودة إلى مزاج تموز/يوليو 2015، لنبرم وقف إطلاق نار دائماً.

ولكن هل يسع قوى المعارضة التوحد واقتراح مشروع بديل ومقنع ووازن؟ ثمة مؤشرات كثيرة إلى أنها قادرة على رص الصفوف. ولكن وحدة المعارضة تقتضي كذلك إجماع الرعاة الاقليميين لمجموعات متباينة على عمل القيادة الموحدة. ولا ترتجى فائدة من زيادة الدعم المالي لبعض المجموعات، في وقت تمول دول أخرى مجموعات مختلفة للحؤول دون التنسيق بينها. والى اليوم، ليس تفكك الدول هو المآل الراجح. ولكن سبل حفاظ دول، مثل سوريا والعراق، على وحدتها، عسيرة وغامضة. ويتوقع بروز دولة كردية مستقلة. والسياسة الذكية تقضي بالتفكير في كيفية تحويل هذا الاستقلال إلى عملية ايجابية، من طريق المفاوضات وليس النزاع الإتني.

روبرت فورد – الحياة

تعليقات الفيسبوك

اضف تعليق