أسند ظهره على صخرةٍ كبيرة، ليريح جسده المنهك، تحت أغصان شجرةٍ باسقة، هرباً من أشعة الشمس الحارقة.. أرادها استراحة قصيرة ليتابع بعدها ما نذرَ نفسهُ له.. تناهت إلى مسمعهِ أصوات غريبة، جال بيعينيه أطراف المكان، فشاهد هناك أسفل التلة صبايا يملأن جرار الماء من بئرٍ عتيق.
ساقته قدماه إلى أقرب شجرة إليهن، ولم يتردد في استراق النظر والإصغاء لضحكاتهن، فمنذ زمن طويل لم يرى وجه امرأة، حتى أنه نسي ملامح أمه التي توفيت وهو في سنٍ مبكرة. سمع تمتماتهن، ورأى إحداهن وقد ابتل ثوبها وراحت ترفعه عن ساقيها قليلاً، والشمس تلمع على بياضهما، وكأنها مؤامرة على قلب المحارب. وأخرى انتبهت إلى وجوده، فاسدلت رموشها خجلاً، واستدارت لتلتقط جرتها، ومضت، بعد أن أومأت إلى رفيقاتها كي يرجعن إلى القرية. ارتخت يداه القابضتين على سلاحه.
كان شديد البأس، لا يكل ولا يمل من القتال، جاب البلاد طولاً وعرضاً، ينشد غاية دونها الكثير من المهالك. صراخُ الثأر في رأسه يحثه على الرحيل، إلا أن شيئاً ما في داخله بدأ يستيقظ. تذكَّرَ صوت أمه، تزاحمت الصور في مخيلته، كلها آتية من البعيد، البعيد..
مشى باتجاه البئر، أحس بنسيم عليل يتسربل بين جنباته، كانت رائحة الفتيات اللائي كن هناك قبله مازالت في المكان. شيئاً فشيئاً، تذكر رائحة أمه، أغمض عينيه، رأى المزيد من الأشجار تنمو من حوله، تحط عليها طيور كثيرة مهاجرة، سرعان ما تنطلق لمتابعة سيرها بحثاً عن ربيع موعود. فتح عينيه ليرى ذكر حمام بقي على غصنهِ برفقة أنثاه المريضة التي لم تستطع مواصلة الطريق. راح يطوف بين الأشجار القريبة، أسرع الخطى صعوداً باتجاه التلة المقابلة.
في هذه الأثناء، بدأت طلقات بندقيته تتساقط من جيبه، وشعر أن حمله بدأ يخف تدريجياً. تعود نارُ الثأر لتشعل رأسه.. الآن يستطيع الارتفاع أكثر. هناك ومن علٍ، بدأ يسترجع ذكريات كثيرة، الحارات والأزقة والطفولة ووجه من أحبها لسنين ولم يجرؤ على مصارحتها، وما كان منه إلا أن ترك لها رسالته الوحيدة قبل مغادرته ولم يعرف بعد إن كان هنالك من جواب. عاد الثأر ممسكاً بتلابيبه..
دخل القرية، جال بين بيوتها، ألقى على أهلها السلام، لعب قليلاً مع أطفالها. لاحظ أنها خالية تمامًا من الرجال والشباب، سأل عن ذلك، فعرف أنهم، مثله، خرجوا يطلبون ثأراً، ولا أحد يعرف عنهم شيئاً. كان حال أمهاتهم وزوجاتهم، كحال أطفالهم، في شوق لرؤيتهم، في عودتهم.
مع الغروب، عاد إلى شجرته الأولى، وجد ذكر الحمام ميتاً بالقرب منها، أكرم دفنه مع أنه لم يفكر أبداً في فعل ذلك حتى مع رفاق الثأر. لم يتذكر أن يبحث عن بندقيته. تحسس رأسه، فلم يجد ثأره، يبدو أنه سقط منه على طريق العودة من القرية. قرر أن يبني كوخاً في المكان، وينتظر عودة الفتيات في الغد.
أيمن الأسود. عضو الأمانة العامة بتيار الغد السوري