أخيراً وبعد سجال طويل وأخذ ورد بين القوى السورية وحتى الدولية، ربما بات بالإمكان القول إن أياماً قليلة فقط هي التي تفصلنا عن عقد مؤتمر أستانة بين أطراف من المعارضة السورية العسكرية والنظام، والذي لعبت الجهود التركية الروسية دوراً كبيراً في تحويله إلى أمر واقع رغم كل التحفظات الأمريكية الأوروبية الأممية غير المعلنة، المتزامنة مع استماتة النظام وإيران لإفشال عقده من خلال “زعرانهما” في وادي بردى واستفزاز المعارضة المسلحة في ريف دمشق.
خفايا وأسرار المفاوضات المثيرة للجدل منذ بدء الدعوة اليها لا تنحصر فقط في الحديث عن سبب الإصرار الروسي التركي على عقدها، وإنما امتد حتى توقيت ومكان عقدها بالإضافة إلى هوية الأطراف السورية المدعوة للمشاركة فيها، الأمر الذي يدفع لطرح العديد من إشارات الاستفهام حول الأهداف الحقيقية للمفاوضات، خاصة مع هذا الكم من الغموض الذي يكتنف هذه المفاوضات والأمور التي سيتم مناقشتها.
من المؤكد أن اختيار العاصمة الكازاخية مكاناً للمفاوضات لم يكن محض صدفة، لاسيما في ظل العلاقات القوية التي تربط نظام الرئيس الكازخستاني نور سلطان نزارباييف بكل من روسيا وتركيا، كما أن اختيار توقيت الانعقاد خلال الأسبوع الأخير من شهر كانون الأول الجاري على أبعد تقدير قد يكون له أيضاً دلالاته ومعانيه، خاصة أنه يأتي بالتزامن مع الدعوة الأممية لعقد مفاوضات بين المعارضة السورية والنظام في جنيف الشهر المقبل.
أمام المعطيات السابقة قد يظهر أن المهم في أستانة بالنسبة للأتراك والروس هو انقعاد المؤتمر بحد ذاته، لما قد يحققه لهما من تسجيل نقطة تفوق جديدة لتحالفهما في صراع النفوذ داخل سوريا على حساب الأطراف الدولية الأخرى الفاعلة في الملف السوري، وعلى رأسها الولايات المتحدة وإيران، سيما وأنها الاولى من نوعها التي ستنجح “فيما لو عقدت” بجمع أطراف عسكرية من النظام مع كبرى فصائل المعارضة المسلحة “بما فيها فصائل إسلامية” على طاولة واحدة.
النقطة الإضافية التي تستحق فعلا التأمل بعمق، هي انحسار المشاركة “حسب تصريحات لمسؤولي البلدين الراعيين” بالوفود العسكرية وعدم دعوة أطراف سورية سياسية، وهو الأمر الذي يبدو أنه يحمل ما يحمله من دلالات ومؤشرات، على رأسها رغبة الحليفين بالتأكيد على أن مفرزات الاتفاق ستطبق مباشرة على الأرض، وهو الأمر الذي عجزت كافة القوى الدولية عن تطبيقه بالرغم من كافة المؤتمرات التي عقدت بما فيها جنيف واحد واثنين وثلاثة.
كل ما ذكر سابقا يدفع بشكل مباشر للاعتقاد، أو ربما شيء من اليقين، إلى أن الهدف الرئيسي من المفاوضات يكمن في رغبة الروس والأتراك بالسيطرة على أكبر كم من السلاح على الأرض السورية بالنسية للمعارضة والنظام، على حد سواء، سيما في المناطق الشمالية والجنوبية والغربية، من خلال تشكيل ترويكا جديدة بينهما يمكن تسميتها بـ”لافروف – أوغلو”، تكون مدعومة باتفاق ربما يكون “تاريخي” بين النظام وكبرى فصائل المعارضة تفرزه اجتماعات أستانة، ما يقوي نفوذ الدولتين على الأرض قبيل عقد اجتماعات “جنيف4” ويمَكِنُهما من التحكم أكثر في سير مفاوضات جنيف، وكأن بوتين وأردوغان يريدان استباق أي مفاوضات حل سياسي بالقول: إن طريق الحل في سوريا يبدأ من موسكو وأنقرة، سيما وأن جميع الأطراف الفاعلة في الملف السوري تدرك أن صاحب الكلمة الفصل هو من يمتلك الكمية الأكبر من السلاح على الأرض.
بعيدا عن أهداف المؤتمر وما يدور في كواليس السياسة العالمية فإن النتيجة الأهم بالنسبة لنا كسوريين من مفاوضات أستانة تكمن، من وجهة نظر شخصية، فيما قد تفرزه من إعادة خلط للأوراق والتحالفات الدولية حول سوريا، وهنا لا أستبعد فرضية قيام تحالف ضمني غير معلن بين الإدارة الأمريكية الجديدة الساعية لاستعادة الدور الأمريكي وزخمه، وبين إيران مثلا، وربما السعودية، لمواجهة النفوذ التركي الروسي في سوريا، الأمر الذي سينعكس حتماً على الساحة الداخلية في سوريا، وبشكل خاص على المعارضة التي تعاني عموماً من تفشي التبعية للجهات الدولية الداعمة لها، ما يعني أننا قد نكون أمام إعادة تقسيم القوى السورية بحسب المواقف الدولية وليس بحسب الموقف من الثورة، أو بمعنى أوضح إلغاء تسميات معارضة ونظام، وبروز تسميات جديدة مختلفة، ما يطرح إمكانية تشكيل المعارضة المدعومة تركياً “الحاضرة للأستانة” تحالفاً مع بقايا النظام المدعوم روسياً في مفاوضات “جنيف4” بمواجهة وفد المعارضة المدعومة أمريكياً والميليشيات الموالية لإيران، الأمر الذي يعلن بشكل مباشر وأد الثورة السورية وتحولها عملياً إلى حرب أهلية وليس ثورة ضد نظام دكتاتوري.
قد يبدو للبعض أن التصور السابق ضرباً من الخيال، ولكن في السياسة لا يوجد مستحيل، خاصة وأن سوريا ووفقا للمؤشرات “سواء في الداخل السوري أو في أروقة المجتمع الدولي” قد دخلت فعلياً بمرحلة حرب عالمية شبه بادرة وصراع نفوذ يكفل تحويل أعداء الأمس إلى حلفاء اليوم والعكس.
اليوم مؤتمر أستانة يقترب من حتمية الانعقاد، وللأسف، في ضوء الظروف الراهنة موقفنا كسوريين سواء عارضنا أو أيّدنا لم يعد له أهمية، خاصة وأن الفصائل المشاركة، أيّا كانت هويتها، لا تملك رفاهية القبول أو الرفض، أي أنها لا تملك قرارها في ظل التحالف الروسي التركي الذي يبدو أن سير الأحداث على الأرض خلال الفترة الحالية بات يصب في مصلحته، وأن القضية السورية باتت أبعد بكثير من بحث مصير الأسد أو مطالب الثورة أو حتى الأزمة الإنسانية التي تعيشها البلاد.
لا أدري كيف يمكن لنا كسوريين التعامل مع هذا الواقع، ولا أملك أي تصور لما يمكن القيام به أصلا، سوى أن نحاول استغلال التقارب الروسي التركي واتفاق وقف إطلاق النار للعودة إلى الثورة السلمية، ومحاولة تحقيق الحد الأدنى من مطالبنا بإسقاط الأسد، بالإضافة إلى أهمية أن ندرك حقيقة أن الاعتماد الكامل على العمل المسلح بات اليوم يمثل خطراً حقيقياً على الثورة في ظل فقدان الكثير من فوهات البنادق لوطنيتها وتوجيهها بحسب بوصلة الداعم، وليس بحسب مطالب الثورة.
حسام يوسف – تيار الغد السوري