للحظات ومع قراءتي لتصريح مدير وكالة الاستخبارات الأمريكية، جون برينان، حول إمكانية تقسيم سوريا، تذكرت ما قاله لنا أستاذ مادة التاريخ قبل سنوات، عندما كنت طالبا في المرحلة الاعدادية، حول “تاريخ الابتزاز السياسي الأمريكي للعرب”، والذي بدأ في السبعينات من القرن الماضي مع استخدام واشنطن لشبح الشيوعية السوفييتية وخطرها على الإسلام، لدفع العرب إلى التوجه لمحاربة الاتحاد السوفياتي عبر إغرائهم بدعمهم عسكريا للدفاع عن دينهم في وجه “التمدد الشيوعي”، في سبيل صرف أنظارهم عن الكيان الإسرائيلي الوليد. وهو ما تم فعلا خلال “حرب أفغانستان” التي خاضها العرب والمسلمون ظنا منهم أنهم يدافعون عن دينهم، بيد أن الحقيقة أنهم كانوا يقاتلون نيابة عن الولايات المتحدة، لاسيما وأن تلك الحرب مثلت الخطوة الأولى باتجاه تفكك الاتحاد السوفياتي والسير بالعالم نحو القطب الواحد بقيادة واشنطن.
حرب أفغانستان، لم تكن عملية الابتزاز الأخيرة أو الفريدة من نوعها التي تمارسها الادارات الأمريكية المتتالية على العرب، حيث تكررت عدة مرات ولاسيما خلال غزو العراق، عندما ربط الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش حل القضية الفلسطينية بموافقة الدول العربية على اسقاط نظام صدام حسين، وفق ما اسمي وقتها “خارطة الطريق”.
عمليا، وبالتعمق في تاريخ تعامل الولايات المتحدة مع ملفات الشرق الأوسط بشكل خاص، يمكن القول إن تصريحات برينان لا تتعدى كونها عملية ابتزاز جديدة تقودها الولايات المتحدة ضد السوريين لوضعهم أمام خيارين، إما القبول بتسوية تفرضها واشنطن بحسب مصالحها، أو مواجهة سيناريو تقسيم البلاد إلى كانتونات، لاسيما وأنه ذات الأسلوب الذي اعتمدته أمريكا بعد غزو العراق من خلال التلويح على مدار 13 عاما متواصلة بإمكانية تقسيم البلاد إلى ثلاثة أقاليم، في كل مرة يقترب فيها العراقيون من قيام ثورة أو انتفاضة على نظام الحكم البديل الذي جاءت به واشنطن بعد إسقاط نظام صدام حسين.
بعيدا عن التجارب التاريخية، هناك العديد من المعطيات والوقائع تدعو إلى تبني إدراج تصريحات برينان حول تقسيم سوريا تحت بند الابتزاز السياسي، أولها صعوبة تقسيمها سواء طائفيا أو عرقيا، فمن الناحية الديموغرافية تتميز سوريا بالتداخل الكبير للتركيبة السكانية، وانتشار مكونات الشعب السوري على كامل البلاد، وعدم وجود تكتلات طائفية أو عرقية في مناطق جغرافية محددة تساعد على تجزئة البلاد إلى دويلات، ولا حتى في المناطق الشمالية والشمالية الشرقية التي يمثل فيها الأكراد أكثرية وليس أغلبية، إذا ما قارنا نسبتهم مع نسبة العرب والآشوريين والسريان من أبناء تلك المنطقة، كذلك الحال من الناحية الدينية، فالمسيحيون على سبيل المثال أو الدروز أو الشيعة، ينتشرون في مناطق متباعدة منفصلة عن بعضها جغرافيا ما يمنع أيضا تقسيم البلاد على أساس ديني طائفي، ما يجعل من تكرار سيناريو تقسيم يوغسلافيا السابقة أو جنوب السودان في سوريا أمرا غير وارد.
هنا وإلى جانب العامل الديمغرافي، لابد من الاشارة إلى العامل الإقليمي الذي يرفض مثل هذه الخطوة، لاسيما بالنسبة لإيران وتركيا على حد سواء، اللتين تريان في تقسيم سوريا خطرا على أمنهما القومي لاسيما مع انتاج هذا التقسيم “إن تم” لدويلة كردية تمثل الخطوة الثانية لإنشاء الدولة الكردية الأكبر التي تضم مناطق من جنوب تركيا وشرق إيران، ناهيك أيضا من الناحية الدولية عن إمكانية اصطدام مسألة التقسيم مع الموقف الروسي الذي قد لا يرحب بتجزئة مناطق نفوذه إلى دويلات، لاسيما في ظل إمكانية قيام أنظمة موالية لواشنطن في بعض تلك الدويلات، ما يعني انحسار النفوذ الروسي وخسارته بعضا من امتيازاته، خاصة وأن مصالح روسيا في سوريا ممتدة على كامل التراب السوري بدءا من الساحل وقواعد طرطوس واللاذقية مرورا بقاعدة حميميم الجوية وحقول النفط والقمح في الجزيرة وصولا إلى حلب العاصمة الاقتصادية ودمشق العاصمة السياسية.
أما لو أردنا الحديث عن إمكانية قيام دويلة علوية في الساحل، فهنا يمكن القول إنها دولة مهددة بالموت في المهد كونها ستكون محاطة بالأعداء، على اعتبار أن تركيا “في الشمال” ستنظر لها كخطر على أمنها القومي على اعتبار أن قيام هذه الدويلة قد يغذي النزعة الانفصالية لدى علويي تركيا والسعي للاندماج مع الكيان العلوي الجديد، يضاف إلى ذلك نظرة السوريين “في الشرق” إلى هذا الكيان ككيان قام على دمائهم وتشريدهم ومآسيهم، كما سيكون الحال في شمال لبنان الذي سيأخذ موقف المعادي لهذه الدويلة استنادا إلى التوتر الكبير الذي تشهده هذه المنطقة في لبنان بين الأغلبية السنية والطائفة العلوية، ما يفقد دويلة الأسد المفترضة كافة المعابر البرية ويحصر متنفسها من الجهة البحرية فقط، الأمر الذي يشير إلى صعوبة استمرار مثل هذه الدويلة.
كي لا نبالغ في مسألة استبعاد مسألة التقسيم، يمكن القول إن النظر إلى الواقع يشير إلى أن تجزئة البلاد مرتبطة بأحد سيناريوهين، حتى وإن كانت احتمالية تحقيقهما ضعيفة، أولهما بقاء بشار الأسد بشخصه في السلطة والاتجاه نحو ما يسمى بسوريا المفيدة، أي بتقسيمها إلى قسمين، أول تحت سيطرة الأسد ويضم الأطراف الغربية والساحل والسويداء، وثاني تحت سيطرة فصائل الثوار، في حين يتجلى السيناريو الآخر بإيجاد أمراء حرب متنازعين على شاكلة ما شهده الصومال، وهو السيناريو الذي قد لا يروق للاتحاد الأوروبي، كونه يعني اشتداد الأزمة الإنسانية وتدفق المزيد من اللاجئين إلى دول الاتحاد الذي يعاني أصلا من أزمة في أعداد اللاجئين الواصلين إليه من تركيا.
أمام هذا الواقع وهذه المعطيات، يكمن التساؤل الرئيسي حول نقطتين، أولهما حول ماهية الهدف الذي تسعى له الولايات المتحدة من خلال هذا الابتزاز السياسي، ومدى ارتباط هذا الهدف بتخاذلها في دعم الثورة السورية، فيما تكمن النقطة الثانية في الطريقة التي يجب أن تتعامل فيها المعارضة السورية السياسية والعسكرية على حد سواء مع سياسة الابتزاز تلك؟.
حسام يوسف – تيار الغد السوري