سوريا.. جزرة الأمريكان وعصا الروس

في علم السياسة لا يمكن تحديد الأهداف والغايات من خلال التصرفات الظاهرة للدول أو بالتصريحات العلنية بقدر تجليها بما تحمله النوايا الخفية والأمور التي تدار من تحت الطاولات، ما جعل من السياسة أشبه بغرف مغلقة وكواليس لا يراها المتابع، وهو الشيء الذي يدفعنا إلى محاولة تعديل قراءتنا لما يحدث في سوريا بشكل مستقل عن الأمنيات والرغبات حتى وإن كانت هذه القراءة لا تتماشى وظواهر تلك الأحداث أو حتى المنطق.

قد يبدو للوهلة الأولى أنه من الغريب أو غير المنطقي أو ربما من الجنون بالنسبة للبعض اعتبار ان ما تشهده سوريا عموما، ومدينة حلب على وجه التحديد، من تطورات عسكرية ليس مجرد صراع بين الثوار والنظام، وإنما حرب غير تقليدية بين موسكو وواشنطن للهيمنة على المعارضة السورية، خاصة اذا ما تعلق الأمر بالروس الذين ومنذ اللحظة الأولى رأى العالم أنهم دعموا ولازالوا يدعمون الأسد سياسيا وعسكريا في وجه الثوار.

صحيح أن روسيا ساهمت بتغطية الأسد سياسيا، وأنها دخلت بقوات مدججة وطائرات متطورة كما شنت عمليات عسكرية وغارات جوية استهدفت مناطق سيطرة الثوار، إلا أن ذلك لا يكفي لاعتماد نظرية أنها دخلت لتدعم الأسد بقدر ما أنها تسعى للحفاظ على مصالحها وهو ما اعترف به بشار الأسد في آخر ظهور إعلامي له قبل أسابيع، الأمر الذي يشير إلى ضرورة عدم الربط بيم التصعيد الروسي والسعي لابقاء الأسد في السلطة وانهاء الثورة حتى وإن أظهرت التصريحات الروسية ذلك، خاصة وأن العمليات الروسية فعليا لم تقدم أي فرق ملموس على الخارطة العسكرية لصالح قوات النظام إلى جانب تركز عملياتها على أهداف مدنية في الغالب، ما يدعونا إلى ضرورة اعادة النظر في تحليلنا للموقف الروسي وأهدافه.

عمليا يمكن القول إن روسيا تسعى لفرض نفسها على الساحة السورية من خلال استخدام سياسة العصا مع المعارضة السورية والسوريين عموما لإجبار المعارضة السياسية وحتى العسكرية على التوجه إلى موسكو في سبيل حل القضية السورية، وبالتالي سحب ورقة المعارضة من يد الغرب والأمريكان على وجه الخصوص، الأمر الذي قد يفسر التصعيد المستمر للطيران الروسي ضد الأحياء المدنية بين الفينة والأخرى، وهو ما ينطبق مع التفكير الشيوعي للنظام الروسي الذي يعتمد على سياسة فرض النفس بالقوة حتى في تعاملاته حتى مع القضايا الداخلية، لاسيما وأن المخابرات الروسية لا تقل اجراما عن نظيراتها العربية.

لو دققنا أكثر في المواقف الروسية في سوريا فإنها تسير وفق سيناريو واحد يبدأ بالتصعيد الجوي يتبعه الحديث عن هدنة يتلوه توجيه موسكو دعوة لطيف من أطياف المعارضة السورية، كما حصل منذ أيام مع معاذ الخطيب الرئيس الأسبق للائتلاف الوطني، وهو السيناريو الذي ربما تسعى روسيا من خلاله إلى إثبات أنها الطرف الوحيد القادر على رسم التطورات في سوريا، إلى جانب أنها صاحبة الكلمة الفصل في تحديد هوية المنتصر، وأن رهان المعارضة على الدعم الأمريكي في مواجهة الروس رهانا خاسر، خاصة في ظل تقاعس إدارة أوباما عن منح الثوار الدعم العسكري المطلوب لحسم الثورة.

أما بالنسبة للأمريكان، فإن سياستهم في الضغط على المعارضة تأخذ شكلا مختلفا قليلا عن الروس، فهي تتعامل مع الثورة السورية على مبدأ الجزرة وفي بعض الأحيان وفق نظرية الوحوش المقيدة، فمنذ بداية الثورة تسعى الولايات المتحدة الى ربط اسقاط الأسد  بالمساعدات الأمريكية، وذلك من خلال قطع تلك المساعدات عن الثوار في بعض الفترات، الأمر الذي مكن النظام في تلك الفترات من تحقيق تقدم في بعض الجبهات لاسيما في درعا وريف دمشق وحمص، وهو ما مكن واشنطن إلى حد ما من التحكم في سير الثورة السورية سياسيا وعسكريا.

أما عن أسباب سعي الولايات المتحدة وروسيا للسيطرة على المعارضة فهي ربما تتجلى أولا في نظرة الطرفين إلى نظام الأسد، تلك النظرة التي تشابه إلى حد كبير نظرة الحلفاء للدولة العثمانية قبل الحرب العالمية الأولى “كرجل مريض يحتضر” لا يمكن التعويل عليه في حماية مصالحمها، وبالتالي قد يدرك الطرفان أن المعارضة أو النظام البديل هو الضامن المستقبلي لهذه المصالح، خاصة مع الظهور العلني لطموح الرئيس بويتن بالتمدد إلى منطقة الشرق الأوسط من خلال العلاقات مع تركيا وإيران بالاضافة إلى السيطرة على سوريا، وهنا يجب التنويه إلى أن النظام حاليا بالنسبة للجانبين وخاصة روسيا لم يعد سوى ورقة ضغط تنتظر الاحتراق بانتصار أحدهما.

ربما كان من الممكن أن يبقى هذا التحليل أو هذه الرؤية للمواقف الأمريكية والروسية من المعارضة السورية أو من التطورات في سوريا أمرا لا منطقيا، حتى بالنسبة لي على المستوى الشخصي، لولا أن هذا التحليل قاد إلى تفسير الكثير من التطورات الحاصلة مؤخرا، لاسيما بالنسبة لحصار حلب من قبل قوات النظام وفك ذلك الحصار بشكل سريع جدا من قبل الثوار، فكلا القوتين أي روسيا والولايات المتحدة أرادت من خلال هذه المدينة تثيبت قوتها ومكانتها، فروسيا أرادت أن تقول إنها قادرة على حسم المعارك لصالح الطرف الذي تشاء، وإظهار هزالة الموقف الأمريكي وضعفه، وذلك من خلال مساعدة نظام الأسد على حصار حلب، وبالتالي إيصال الرسالة كاملة للمعارضة وللسوريين أن الشمس تشرق من موسكو.

أما بالنسبة للأمريكان، فكانت مسألة فك الحصار وبسرعة تتجاوز مدة فرضه مسألة مصيرية، وذلك لرد الصاع صاعين لقياصرة روسيا، وبالتالي التأكيد للمعارضة السورية وللسوريين مجددا أن الدعم الأمريكي هو العامل الأهم في حسم الثورة السورية، لاسيما وأن بعض أطياف المعارضة والشخصيات السياسية السورية وقتها بدأت فعلا بالتوجه نحو موسكو، وتصاعد الحديث عن ضرورة عدم الاعتماد على إدارة باراك أوباما التي لم تظهر جدية حقيقية في دعم الثورة طيلة ست سنوات متتالية، طبعا وهنا لا أتجاهل دور الثوار في فك الحصار وإنما اتحدث عن الموقف الأمريكي الذي اعتبر من مسالة فك الحصار أمرا مصيريا وضروريا لمصالحه وليس من منطلق دعمه للثورة.

تبقى المشكلة الكبرى في كل ما ذكر هي نظرة المعارضة السورية “أتحدث هنا عن الكيانات الممثلة للثورة” لنفسها ولهاتين الدولتين، فهي وبعد ست سنوات لا تزال عاجزة عن تقدير مكانتها كضرورة لكلا هاتين الدولتين وتتعامل على أنها فقط من يحتاج الدعم من إحداهما، بالإضافة إلى أنها تتعامل مع روسيا على أنها في معسكر العداء وأمريكا في معسكر الأصدقاء، الأمر الذي يجعلها قاصرة عن التعامل مع الواقع بما يحقق مصالحها ويجعلها تابع لرغبات واشنطن، أما عن النتيجة الأهم فيمكن القول إنها إدراك العالم كله بأن نظام الأسد يوما ما سيصبح كليا من ماضي سوريا ولم يعد يتجاوز كونه ورقة ضغط لا أكثر.

حسام يوسف – تيار الغد السوري

تعليقات الفيسبوك