في روايتها العالمية “فرانكشتاين ” تتحدث الروائية الإنكليزية ماري شيلي ( 1797- 1851) عن شخصية خيالية ابتدعها طالب جامعي طموح اسمه فكتور فرانكشتاين، بعد أنْ ملّ الأخير من رتابة واستعصاء مايدور في حياته، وعجزه في الحصول على إكسير الحياة، حتى تمكّن في نهاية المطاف من دراسة التاريخ الطبيعي للإنسان، كجوهر للحياة والموت، فحاول في مختبره التجريب على بقايا جثث آدامية، لصناعة عملاق قوي، أوحى له بأنه قوة جبارة قادرة على حل مشكلاته، لكنه ما أنْ انتهى من التجربة حتى ظهر عليه مسخ قبيح ورهيب، بث الرعب في قلبه ، فهرب منه قبل أنْ يتفلت المسخ من صانعه ( فرانكشتاين)، فيقتل شقيقه الصغير، و يُجهز على أقربائه ويقتلهم أيضاً.
لم يتمكن فرانكشتاين من السيطرة على المسخ الذي صنعه أو إخضاعه لإرادته، مادفعه في نهاية المطاف إلى اتخاذ القرار لقتاله والقضاء عليه، في الوقت الذي كان فيه المسخ الرهيب قد استقوى على صانعه، طالباً منه صناعة ” مسخة” مثله، حتى يتمكن من تأسيس مجتمع من المسوخ لا يبدو فيه غريباً، أووحيداً لايشبهه أحد.
هنا تسرد الروائية ” شيلي” الحوارية الأهم في الرواية، حين قال المسخ لصانعه: ” أنت تمقتني وتزدريني.. أنا صنيعتك التي ترتبط بها بروابط لا تنحل إلا بإبادة أحدنا، لذلك ماعليك إلا أنْ تقوم بواجبك نحوي وسوف أقوم بواجبي نحوك “.
في الحوارية ذاتها، تتضح أهداف الطرفين ( الصانع والمصنوع)، فالصانع تورط بما فعل، لأنه خالف سنن الطبيعة والحياة حين صنع نوعاً متفرداً من البشر الأعداء للإنسانية، أما المصنوع فقد توهم بأنه سيكون “آدم” جديد. لكن “فرانكنشتاين” إزاء خوفه من استمرار المسخ في قتل الناس- يعده بصناعة مسخة مثله.
يقع فرانكشتاين في حيرة من أمره، فيتردد في تلبية طلب مسخه، تخوفاً من تناسل المسخ وولادة أجيال دموية جديدة تهدد الإنسانية جمعاء، إلا أنّ المسخ يهدده بالانتقام منه في ليلة زواجه، وبالفعل يقتل المسخ خطيبة فرانكشتاين ليلة عرسه، ويموت والد فرانكشتيابن حزناً على ضياع العائلة، ثم يتابع المسخ رغبته في الانتقام، فيقتل الكثيرين لتتصاعد الحرب بين الصانع والمصنوع إلا مالا نهاية.
أهم التحولات فيما ترمي إليه الرواية، تبدو حين يموت الصانع فرانكشتاين، ويدرك المسخ أنّ مهمته على الأرض قد انتهت بموت صانعه؛ إذ لا أمل له في البقاء، لأنّ نوعه سيموت بموت صانعه. لذا فإن قتل المسخ لأي إنسان آخر أصبح لا معنى له، مادام قد فقد سلطة التهديد على صانعه (فرانكنشتاين). وأمام هذه المعادلة يقرر المسخ الانتحار…
تذكرنا رواية ” شيلي” بحالنا نحن السوريون، فقد أصبحت سورية المختبر الذي صنع فيه أشباه فرانكشتاين، وحوشاً ومسوخاً بأشكال متعددة، في لعبة ساقتها القوى الإقليمية والدولية، مستغلةً توق السوريين لـ ” إكسير الحرية”، في الوقت الذي أصبحت فيه هذه اللعبة، ساحة لاقتسام غنائمهم، وغاياتهم ومصالحهم، متجاوزين في ذلك الطبيعة البشرية للسوريين، وتوقهم للتغيير المتأتي من ثقافتهم وتاريخهم الحضاري.
هكذا أصبحت مسوخنا واقعاً.. وحياة.. ومجتمع.. وكيانات سياسية.. ودولة.. بل واستطاعت أنْ تُفرخ أجيالاً من الممسوخين، بأشكال وأسماء وتحولات جديدة، نجحت في محاورة من لايشبهونهم في الخلقة، و يتقاربون معهم في الخلق، وعلى قاعدة أساسية تتشابه ومسخ فرانكشتاين، التي تقول: ” قم بواجبك نحوي وسوف أقوم بواجبي نحوك “.
قاعدة المسخ ذاتها، مازالت الحبكة الدرامية الأهم لقصة موتنا العلني، فقد استطاعت المسوخ على أرضنا أنْ تعقد صفقاتها مع أولئك الذين مازالوا يطمحون لشهوة القوة والسلطة، بعد العجز والاستعصاء الذي تورطوا به، فأصبحوا يبحثون – على طريقة فرانكشتاين- عن امتلاك القوة الآنية، التي ترد ماء وجههم، بالرغم من معرفتهم بأنها مقدمة لانتحار وجحيم مستقبلي.
الفصل الثاني من الرواية السورية، تذكرنا أيضاً برواية كريستوفر مارلو الشهيرة التي حملت عنوان بطلها “دكتور فاوستس”، الذي أصبح – حسب الرواية- يشعر بالعجز والاستياء من تجاربه ومعارفه، التي لم تساعده على امتلاك القوة لانقاذ مرضاه، الذين يموتون كل يوم، ولطالما تمنى أنْ يعطيهم الدواء ليمنحهم قوة داخلية بدل الموت.
يعيش الدكتور فاوستس في صراع بين الثقة والإيمان، والمعتقدات الدينية الرجعية التي كانت تسود أوروبا خلال تلك المرحلة، حيث الاعتقاد بالخرافات والقوى الخارقة والسحر والشعوذه، حتى أنّ المجتمع الأوروبي – حينها – كان يفسر انتصار صلاح الدين في الحروب الصليبة بامتلاكه السحر، الذي أعطاه القوة الخارقة للانتصار في الحروب الصليبية.
خسر الدكتور فوستوس ثقته بنفسه، التي وصلت إلى أدنى مستوياتها، عندما بدأت طاقته وقوته تخور بسبب أهدافه الحمقاء. لذلك قرر أنْ يبيع نفسه للشيطان مقابل أنْ يمنحه القوة والجاه والسلطة، مع يقينه بأنّ الإله لن يحبه بعد ذلك، وأنه سيصبح ملعوناً إنْ باع نفسه للشيطان.
هكذا اشترى فاوستس” الطاقة الآنية المدمرة، بدلاً من العطاء الإلهي، فباع نفسه للشيطان مع معرفته الكاملة بنتيجة الاختيار.
يختنم كريستفر مارلو روايته بفكرة مفادها ” أنّ الدكتور فاوستس مسؤول عن مصيره الرهيب لأنه لم يستطع التوفيق بين إمكانياته الواقعية و بين أحلامه، ولهذا ظهر الدكتور فوستوس في بداية الرواية رجل عظيم وذكي، إلا أنه انتهى نهاية مأساوية في نهاية الرواية،لأنه جلب البؤس لنفسه بسبب شراكته مع الشيطان بالسحر الأسود، وهو أخطر أنواع السحر.
هكذا ظهر الدكتور فوستوس ، خليطاً من شخصية جيدة وسيئة، شريرة و طيبة، متألقة ومغرورة، مثقف وأحمق، فاستهلك منجزاته وفكره وذكاءه في سبيل المتعة الآنية والأحلام.
باختصار: أما آن لنا الخروج عن عقلية الارتهان لصناعي المسوخ اللا سورية، كما الخروج عن عقلية أولئك الذين مازالوا يعقدون صفقاتهم مع الشيطان، في محاولة منهم للإبقاء على سورية كمختبر لصناعة المسوخ من بقايا جثث السوريين، في أجبن وأقذر حرب عرفتها البشرية.
هذه قصتنا نحن السوريون، تختصرنا أدبيات القرون الوسطى، ولهذا كله نموت بأبشع الطرق، و بالأساليب ذاتها التي تُدار بها الحروب إبان تلك المرحلة من تجويع.. و حصار للمدنين.. وحرق.. وصلب.. وقطع للرؤوس.. وامتهان لكل ماهو إنساني، في غاية وحيدة مؤداها الموت، والعبثية، والرغبة الآنية على طريقة فراكشتاين و الدكتور فاوستس.
نعم.. آن لنا أن نرسم مصيرنا السوري من ثقافتنا و إمكانياتنا لوقف موتنا العلني، الذي أصبح – لامحالة – يهدد بمحونا جميعاً.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هامش- يقول محمد الماغوط:
لقد أعطونا الساعات وأخذوا الزمن.. أعطونا الحليب المجفف واخذوا الطفولة.. أعطونا السماد الكيماوي واخذوا الربيع.. أعطونا الجوامع والكنائس وأخذوا الإيمان.. أعطونا الثوار وأخذوا الثورة.
بقلم: د. محمد خالد الشاكر