المفارقة السورية: لماذا الحرب باتت تؤدي إلى الأسوء أكثر من أي وقت مضى

هناك حقيقة أساسية عن الحرب الأهلية في سوريا، ويبدو أنها لن تتغير أبدا، وهي أنها تحبط أي محاولة في مهدها. وعلى الرغم من الهجمات ومؤتمرات السلام والتدخلات الأجنبية، وآخرها التوغل التركي خلال هذا الأسبوع داخل أحد المدن الحدودية، فإن المؤشر الوحيد الذي يتحرك هو الذي يقيس معاناة السوريين التي تزداد سوءًا.

وتوضح الأبحاث الأكاديمية حول الحروب الأهلية السبب، أن متوسط المدة التي يمتد لها مثل هذا الصراع هي 10 سنوات، أي ضعف الفترة التي مرت على الحرب السورية، لكن هناك عدة عوامل قد تطيل أمدها وتجعلها أكثر عنفًا وأكثر استعصاء على التوقف، وجميعها موجودة في سوريا.

وبعض هذه العوامل تتسبب فيه التدخلات الأجنبية التي كانت تهدف إلى إنهاء الحرب، لكنها وضعتها في مأزق يعزز فيه العنف نفسه بنفسه وأصبحت جميع الطرق إلى السلام فيه مغلقة. وواقع أن المعركة الدائرة متعددة الأطراف وليست بين طرفين يجعل من الصعب حلها.

وعندما سُئلت باربرا والترز، الأستاذة بجامعة كاليفورنيا بسان دييغو، والخبيرة في شؤون الحروب الأهلية، عن صراعات مماثلة على مر التاريخ، فإنها سكتت قليلًا ثم فكرت في بعض الاحتمالات، ثم استسلمت، ليس هناك صراع مماثل. وقالت: “إنها حقًا قضية صعبة جدًا جدًا”.

صراع حصين حد الإرهاق

تنتهي معظم الحروب الأهلية عندما يهزم أحد الطرفين، فإما أن يهزم عسكريًا أو يستنفذ أسلحته أو يفقد التأييد الشعبي ويضطر إلى الاستسلام، وينتهي نحو ربع الحروب الأهلية باتفاق سلام، ويكون السبب غالبًا استنفاذ الطرفين طاقتهما.

كان هذا ليحدث في سوريا، فالطرفان المتحاربان الأساسيان، النظام والثوار الذين بدؤوا القتال في 2011، ضعيفان ولا يمكنهما بمفردهما الاستمرار في الحرب لوقت طويل.

لكنهما ليسا وحدهما، فكل طرف تدعمه قوى أجنبية، تشمل الولايات المتحدة وروسيا وإيران والسعودية والآن تركيا، تسبب تدخلها في تعطيل القوانين الطبيعة المعروفة، فالقوى التي قد تعمل على إبطاء هدوء الصراع غير موجودة، ما سمح باستمراره لوقت أطول من المفترض.

يدعم النظام والمعارضة من الخارج، ما يعني أن أسلحتهم لن تنفذ، كما أن كليهما يحصل على دعم من حكومات أجنبية لا تشعر بتكاليف الحرب بشكل مباشر، وليس من جهات محلية قد ترغب في تحقيق السلام وإنهاء الألم. هذه التكاليف المادية والبشرية يسهل تحملها بالنسبة للقوى الأجنبية الأكثر ثراء.

ولهذا السبب، كما يقول جيمس فيرون، الأستاذ بجامعة ستانفورد، والذي يدرس الحروب الأهلية، توصلت العديد من الدراسات إلى “أنك إذا كنت تتدخل للوقوف بجانب أحد الطرفين من الخارج، فإن المدة ستطول بشكل كبير”.

وتشمل المعارك البرية الميليشيات الكردية، التي تحظى بدعم خارجي، وتنظيم الدولة، الذي لا يتلقى أي دعم. لكن أنصار النظام والمعارضة يركزون على بعضهم البعض، ما يجعلهم هم وداعميهم في مركز الحرب.

لا أحد يستطيع الخسارة.. ولا أحد يستطيع الفوز

الرعاة الأجانب لا يمحون فقط آليات السلام، إنهم يقدمون آليات تعزيز ذاتي للمأزق الصعب.

عندما يخسر أحد الطرفين على الأرض، فإن داعمه الأجنبي يزيد من تدخله، ويرسل الإمدادات أو الدعم الجوي لمنع هزيمة الطرف المفضل لديه، ثم يبدأ هذا الطرف في الفوز، ما يستدعي تحرك الداعم الأجنبي للطرف الآخر، وكل تصعيد يكون أقوى مما قبله، ما يسرع عمليات القتل دون أي تغيير في توازن الحرب الأساسي.

كانت هذه هي قصة سوريا منذ البداية، ففي أواخر عام 2012، بينما كان يعاني جيش النظام السوري من الهزيمة، تدخلت إيران لصالحه. وفي أوائل عام 2013، وانتعش جيش النظام مرة أخرى، فسارعت دول الخليج الثرية إلى دعم الثوار، وبعد عدة جولات، انضمت الولايات المتحدة وروسيا إلى الصراع.

وتعد هذه القوى الأجنبية قوية بما يكفي لتلائم أي تصعيد، ولا يمكن لأي طرف تحقيق فوز صريح؛ لأن الطرف الآخر يمكنه دائمًا المواجهة، ويستمر الأمر على هذا النحو، وحتى التقلبات الطبيعية في صفوف المعركة يمكنها إطلاق جولة أخرى.

وخلال العام الماضي، على سبيل المثال، دعمت الولايات المتحدة الأكراد السوريين ضد تنظيم الدولة. وعندما أصبح الأكراد أقوى، ازداد قلق تركيا التي تقاتل المتمردين الأكراد لديها، تدخلت تركيا هذا الأسبوع للاستيلاء على مدينة جرابلس السورية، مدعومة من الولايات المتحدة؛ لمنع الأكراد من السيطرة عليها أولاً. (وقد دعمت الولايات المتحدة هذا الجهد أيضا، وكأن التحالفات لم تكن بالفعل معقدة بما يكفي).

هيكل الحرب يشجع الأعمال الوحشية

لقد شهدت سوريا عمليات قتل جماعي عشوائية متكررة، على كل الجبهات، وهذا كله ليس بدافع الحقد، بل يقف وراءه شيء أقوى وهي “الحوافز الهيكلية”.

تعتمد القوى المتحاربة، في معظم الحروب الأهلية، على الدعم لكي تنجح، وهذه “التضاريس البشرية”، كما يسميها خبراء مكافحة التمرد، تقدم لجميع الأطراف حافزًا لحماية المدنيين وتقليل الأعمال الوحشية، وكثيرًا ما أثبتت أنها حاسمة.

لكن الحروب المماثلة لحرب سوريا والتي تعتمد فيها الحكومة والمعارضة بشكل مكثف على الدعم الأجنبي، تشجع على السلوك المعاكس تمامًا، وفقًا لأبحاث علماء السياسة ريد وود من جامعة ولاية أريزونا، وجيكوب كاثمان من جامعة ولاية نيويورك ببافلو، وستيفن جينت من جامعة كارولينا الشمالية.

ولأن الأطراف المتحاربة في سوريا تعتمد على الرعاة الأجانب، بدلًا من السكان المحليين، فإن لديهم دافعًا أقل لحماية المدنيين، وفي الوقع، هذه الدينامية تحول السكان المحليين إلى تهديد محتمل بدلًا من أن يكونوا مصدرًا ضروريًا.

وتدفعهم الحوافز إلى “استغلال العنف والرعب الجماعيين لتشكيل سلوك السكان”، كما توصل الباحثون، إلى أن الصورة التي نراها لأمهات وأطفال قتلى ربما تمثل ليس مارة لا حول لهم ولا قوة، ولكن أهدافا متعمدة، لم يقتلوا بدافع الجنون أو القسوة ولكن انطلاقا من حسابات عقلانية باردة.

إن الهجمات العشوائية العنيفة على المدنيين تنتج عنها مخاطر قليلة على المدى القريب وفوائد كبيرة، عرقلة سيطرة العدو أو الدعم المحلي وتهدئة التهديدات المحتملة ونهب الموارد وغيرها، ولقد نفذت القوات الموالية للنظام حتى الآن معظم الهجمات ضد المدنيين، لكن مقاتلي المعارضة قاموا ببعض الهجمات أيضًا، ومن بين الثوار هناك مجموعات فردية ترفض الهجوم على المدنيين، لكنها تكون أقل امتيازا من المجموعات التي لديها استعداد لذلك.

الخوف من الهزيمة يرسخ الوضع الراهن

حالة عدم اليقين هي الدافع وراء هذا المأزق. فلا أحد يعلم كيف ستكون ما بعد الحرب أو كيف يمكن الوصول إليها، لكن الجميع يتخيل موقفا أسوأ، وهذا يخلق أمرًا واقعًا متحيزًا، تكون فيه الأطراف المتحاربة قلقة بشأن الحفاظ على ما تمتلك أكثر من المخاطرة لتحقيق أهدافهم الأكبر.

وكما يقول بروفيسور فورين من جامعة ستانفورد، “إن منع الطرف الآخر من الفوز أهم من أن تفوز أنت”.

وتدرك كل قوة أجنبية أنها لا تستطيع الفوز، لكنها تخشى بشكل جدي من أن انتصار الشخص الآخر سيكون غير محتمل. فالسعودية وإيران، على سبيل المثال، تعتبران سوريا ساحة قتال في صراعهم الإقليمي على السلطة، وخسارتها في اعتقادهم قد تعرض أنظمتهم للخطر.

وحتى ولو كانت الحرب السورية تلحق الضرر بالجميع على المدى البعيد، ما يضمن تطرفًا وزعزعة استقرار بشكل أكبر، فإن الخوف من الهزيمة قريبة المدى تجعل الجميع يستمرون في حرب لا نهائية لا يمكن الفوز فيها.

ويفاقم هذا الأمر ديناميات صنع القرار الخاصة بالتحالفات غير المتماسكة، فكل طرف يتكون من أطراف عدة يمتلكون أجندات وأولويات مختلفة تمامًا، وكل ما يمكنهم الاتفاق بشأنه هو أنهم يرغبون في تجنب الهزيمة، إنه استراتيجية القاسم المشترك الأصغر.

وهذا سبب يدعو إلى تصديق أن روسيا، على سبيل المثال، وقد ترغب في عزل بشار الأسد، أو على الأقل التوصل لاتفاق سلام. لكن روسيا لا يمكنها إجباره على التفاعل، ولا يمكنها أيضا الخروج من سوريا دون ترك مصالحها هناك، وفي الوقت نفسه ربما يريد الأسد تدخلًا روسيًا أكبر كي ينتصر، وهذا شيء ليست موسكو مستعدة لتقديمه. والنتيجة، يظل الأسد في مكانه، وتتدخل روسيا بشكل يكفي لإبقائه في منصبه.

الأحزاب السورية بنيت لتقاتل لا لتنتصر

النظام السوري والثوار الذين يقاتلونه ضعفاء داخليا بطرق تجعلهم يفضلون حالة الجمود الحالية، بغض النظر عن فظاعتها، على أي نتيجة قابلة للبقاء.

ينتمي أغلب كبار الزعماء السوريين إلى الأقلية العلوية، التي تمثل جزءًا من سكان الدولة لكن لديها نصيبًا غير متناسب من قوات الأمن، فبعد سنوات من الحرب، ويخشى العلويون من مواجهة إبادة جماعية إذا لم ينتصر الأسد.

لكن مثل هذا الانتصار غير وارد، لأن وضع الأقلية العلوية يعطيها الدعم القليل جدًا لاستعادة النظام بأي طريقة سوى العنف، لذلك يعتقد القادة السوريون أن حالة الجمود هذه هي أفضل طريقة لحفظ أمن العلويين اليوم، حتى إذا كان هذا يزيد من المخاطر على المدى البعيد.

فالمعارضة السورية ضعيفة بطريقة مختلفة، حيث إنها مقسمة إلى عدة مجموعات، وهذا عامل آخر يجعلها تميل إلى إطالة زمن الحروب الأهلية وجعل انتهائها بشكل سلمي غير وارد.

وتوصلت دراسة أجرتها الأمم المتحدة عام 1945 إلى أنها نجحت في حل ثلثي الحروب الأهلية التي تشتعل بين طرفين، لكنها نجحت فقط في حل ربع الحروب متعددة الاطراف. إن ساحة القتال في سوريا معقدة، حيث توجد بها معارضة تشمل مجموعات معتدلة وإسلامية وموالين للقاعدة وتنظيم الدولة، والقوات السورية ودخلاء مثل ميليشيات حزب الله الشيعي اللبناني، ومقاتلين أجانب انضموا للحرب باسم الجهاد، كل واحد من هذه الفصائل لديه أهادفه الخاصة، ما يضعف أي احتمالات للتوصل إلى اتفاق سلام، كما أن كل منها أيضا لديه حوافز يتنافس من أجلها مع المجموعات الأخرى. ولهذا السبب غالبا ما تفشل المعارضة متعددة الأطراف. حتى وإن أطاحوا بالنظام، فإنهم غالبا ما ينتهون إلى حرب أهلية ثانية فيما بينهم.

مخاطر النصر

وتعد الطريقة الوحيدة المؤكدة لكسر حالة الجمود، هي الارتفاع لأبعد مما يستطيعه الآخرون؛ ولأن سوريا سقطت في أيدي أقوى قوتين عسكريتين في عالم، الولايات المتحدة وروسيا، فإن هذا كله لا يمكن التخلص منه إلا بغزو واسع النطاق.

وفي أحسن الحالات، قد يبدو هذا سيئًا أقرب إلى ما حدث في العراق أو أفغانستان، وفي أسوأها، فإن غزو منطقة حرب تنشط فيها أطراف أجنبية متحاربة قد تشغل حربًا إقليمية كبيرة.

أما الطريقة الأخرى التي قد تنتهي بها هذه الحروب هي أن يقوم أحد الداعمين الأجانب بتغيير سياسته الخارجية ويقرر الانسحاب. هذا يسمح للطف الآخر بالفوز السريع. ولكن في سوريا، ولأن كل طرف تدعمه عدة قوى أجنبية، يجب أن يقوم جميع الداعمين لطرف ما بالانسحاب في نفس الوقت.

عقبة أمام السلام.. ليس هناك قوات لحفظ السلام

تنجح اتفاقيات السلام أو تفشل بناء على من سيتحكم في الجيش وقوات الأمن. في سوريا، قد يكون هذا سؤالا لا إجابة له.

إنها ليست مسألة طمع، لكنها مسألة ثقة. فبعد حرب وحشية كالحرب السورية، التي قتل فيها أكثر من 400 ألف شخص حتى الآن، يخشى المقاتلون من أن يتم ذبحهم إذا حصل الآخرون على الكثير من القوة والنفوذ. لكن اتفاقًا من شأنه منح جميع الأطراف قوة عسكرية متساوية سيتسبب في الانتكاس والعودة للحرب. ومن ثم السماح للثأر بالاحتفاظ بأسلحتهم واستقلالهم، وهو الدرس الذي تعلمه العالم في ليبيا.

وفي الوقت نفسه، يجب أن يكون هناك نوع من القوة المسلحة لاستعادة الأمن والقضاء على من تبقى من أمراء الحرب والميليشيات.

وغالبًا ما يكون الحل في اللجوء إلى دولة أو منظمة خارجية، مثل الأمم المتحدة، وإرسال قوات لحفظ السلام. هذه القوات تحافظ على الأمن خلال مرحلة انتقال البلاد إلى السلام، بطريقة لا تحفز الجانبين على إعادة التسليح. ولكن أي دولة قد تقبل بتطوع مواطنيها بالتواجد في سوريا إلى أجل غير مسمى، وبخاصة في ظل العظة التي تعملها الجميع من تجربة أمريكا في العراق؟.

أي قوة أجنبية قد تجعل من نفسها هدفًا للإرهابيين الجهاديين، وتواجهة على الأرجع سنوات من التمرد قد يكلفها مئات أو آلاف الأروح؟.

ماكس فيشر – الواشنطن بوست
ترجمة: صحيفة التقرير

تعليقات الفيسبوك