الأسد لن يرحل..، لا أعتقد أن هذا كل ما تريد روسيا قوله من خلال حربها الشعواء على حلب، وأصل إلى درجة اليقين أنه لا يزال للعبارة بقية كفيلة بنفي الاعتقاد السائد بأن النظام انتصر في حلب وإنها بداية تصفية الثورة السورية.
أعلم تماماً أن ما شهدته حلب مؤخراً كان بمثابة نكبة للشعب السوري، لاسيما من ناحية ما عكسته من تنامي شرذمة الفصائل الثورية على الأرض وتفككها وارتهانها لقوى دولية وإقليمية، إلى جانب عجز المعارضة السياسية وفشلها وبداية انهيارٍ مدوٍ للإئتلاف الوطني، إلا أنه وبالرغم من ذلك هناك الكثير من المؤشرات التي تدل على أن ما حصل في حلب ليس إلا تمهيداً لدخولِ الثورة السورية مرحلة جديدة ليس بالضرورة أن تروقَ للنظام والإيرانيين على حدٍ سواء أو أن تكون رياحها بما تشتهي سفنهما.
لا يحتاج المتابع للشأن السوري كثيراً من التفكير لملاحظة عدم ارتياح النظام وإيران لاتفاق حلب، فموقف الطرفين منه كان واضحاً من خلال ردود أفعالهما المعلنة التي لم تخفِ رغبتهما بإفشال الاتفاق، تارةً من خلال مضايقة النازحين من حلب أثناء خروجهم أو استهدافهم بشكل مباشر، وتارةً عبر عدم وقف القصف المدفعي على أحياء المدينة المحاصرة أثناء عمليات الإجلاء، الأمر الذي يثبت إصرار الطرفين على إفشال الاتفاق بأي ثمن، وهو ما لم نشهده في الاتفاقات المماثلة في داريا وريف دمشق وحمص..إلخ، ذلك الاصرار على افشال الاتفاق الذي واجهته روسيا بتهديد النظام وإيران بالاستهداف العسكري المباشر لهما في حال استمرار عرقلته في حادثة هي الاولى من نوعها بين الحلفاء.
السؤال البديهي والمحوري هنا، لماذا يُصر الأسد والإيرانيين على إفشال الاتفاق طالما أنه يعتبر نصراً عجز كلاهما عن تحقيقه على مدار سنوات في مدينة استراتيجية كحلب، وما هو التضارب الحاصل في مصالح معسكر حلفاء الاسد الذي دفعهم إلى حد تهديد بعضهم البعض؟.
واقعيا لا يمكن لأحد إنكار أن روسيا هي القائد الفعلي للعمليات العسكرية في سوريا وخاصة حلب، ما يضع المصلحة الروسية في المقدمة في اي تسوية أو نتيجة، ووجود التضارب “سابق الذكر” يعني وجود عدم اتفاق بين المصالح الساعية موسكو لتحقيقها في سوريا، وبين النظام وطهران الساعيان لابقاء الأسد في السلطة كنظام طائفي يحمي مصالح طهران في سوريا والمنطقة، الأمر الذي يعني فعلياً إمكانية وجود عدم اتفاق عام بين الأطراف المذكورة حول مصير الأسد في سوريا أو على الأقل اعتبار موسكو مصير الأسد أمرا ثانويا ضمن أولوياتها، إلى جانب وجود تباين جوهري في أهداف هذه الأطراف في معركة حلب التي حسمها الروس لمصلحتهم وحدهم، وبالتالي فإن ما أرادته روسيا من السيطرة على حلب بعيد تماما عن ما يتم تناوله في الإعلام حول انتصار النظام واعتباره تأكيدا على بقاء الأسد في السلطة.
إذا ما الذي أرادت روسيا قوله في حلب؟ هذا المهم بالنسبة لنا كسوريين ولثورتنا.
حقيقة، أكثر ما تعانيه روسيا في ثورتنا هو رفض المعارضة استيعاب أهمية الدور الروسي في حلحلة القضية السورية وتمسكها بالدعم الغربي رغم هزالته، وهو ما ترد عليه موسكو دائما بمزيد من العنف ضد السوريين ومدنهم، لإجبار المعارضة على فهم هذا الدور والايمان به وفرض نفسها كطرف فاعل في القضية السورية، لذا فإن كل العنف الذي شهدته حلب وما قبل حلب يمكن اعتباره رسائل أراد من خلالها نظام بوتين القول: “إن الأسد لن يرحل عسكريا، وسقوطه لا يمر إلا من موسكو وبرعايتها”.
لو تحدثنا قليلا خارج إطار التخمينات، فإن هذا واقع راسخ يجب علينا عدم إنكاره، فبعيدا عن الكلام المعسول والمشاعر والتفكير العاطفي الذي اعتاد السوريون عليه طيلة ستة أعوام، فإن دخول روسيا المباشر في سوريا أنهى تماما فكرة الحل العسكري وإسقاط النظام عسكريا لسلسلة أسباب أهمها القوة العسكرية الروسية والتطور النوعي للسلاح الروسي الذي يجعل من الحديث عن هزيمة الفصائل المعارضة للقوات الروسية ضرباً من الخيال والأحلام، خاصة وأن التدخل الروسي أولاً اقتصر على الجو دون تدخل بقوات برية، ثانيها ضعف التسليح وعدم جدية المجتمع الدولي بدعم فصائل الثورة التي تعاني أصلا من حالة شرذمة وتفكك وتبعية غير مسبوقة.
من وجهة نظر شخصية، أعتقد أن ما يجب أن ندركه الآن أننا كسوريين بتنا بحاجة إلى إعادة تقييم للموقف ودراسة معمقة لخياراتنا خلال المرحلة القادمة، والإيمان بمقولة أن ما بعد حلب لن يكون كما قبلها، ولكن ليس على طريقة الأسد.
هنا لا أبرئ روسيا من دماء السوريين ولا اعتبر مصالحها مبررا لقتل الأبرياء ولكن ما أريد قوله إنه ربما علينا أن ننظر إلى ما جرى بحلب من زاوية أخرى، فنحن اليوم أمام فرصة جديدة لاعتبار ما بعد حلب تمهيد لحل سياسي ينهي الحرب في سوريا، وذلك من خلال التخلي عن التمسك بالحل العسكري والقبول بحل سياسي يكتفي بإقصاء الأسد من السلطة حتى ولو منحه ذلك خروجا آمن، إلى جانب التسليم بفكرة حكومة وحدة وطنية يشارك فيها شخصيات من النظام تمهد لانتخابات عامة في البلاد، بالاضافة إلى إسقاط السلاح تماما وإعادة المنشقين العسكريين إلى الخدمة تحت قيادة عسكرية وأمنية جديدة يشارك فيها مسؤولين من النظام ممن لم تتلطخ أيدهم بدماء السوريين مع قادة منشقين وعسكريين سابقين يتركيبة تضمن عدم عودة النظام القمعي الطائفي مجدداً.
لنكن واقعيين، ولنفكر بمنطقية، نحن اليوم لا نملك رفاهية الاختيار، وفي كل يوم يمضي تقل خياراتنا ونضطر للتنازل أكثر عن مطالبنا، قد نكون اليوم قادرون على تحقيق شيء مما خرجنا لأجله ولكن إن تصلبنا في آرائنا أو تمسكنا بخيارات مستحيلة قد نجد أنفسنا أمام خسارة عظيمة.
أعتقد أنه بات لزاما علينا اليوم أن نحاول انقاذ ما يمكن انقاذه من بلاد تفقد في كل يوم العشرات من أبنائها ويخسر اقتصادها مليارات الدولارات، ناهيك عن مئات آلاف المعتقلين الذين يستشهد منهم المئات في كل يوم نتأخر فيه عن الوصول إلى تسوية تطلقهم من المعتقلات.
ما أعتقده أيضا أننا مطالبين اليوم بأن لا نخرج عن قيم ثورتنا ببناء وطن إلى تبني مقولة “إسقاط الأسد أو إحراق البلد”، كما أننا مطالبين بإدراك بأن التمسك بالحل العسكري والمطالب المتصلبة هو نحر حقيقي للثورة وللبلد، وأن لا يدعو إلى استمرار العسكرة إلا الغافل أو تاجر الحروب المستفيد.
لست في صدد المزاودة على أحد أو توزيع شهادات الوطنية، ولكن نحن اليوم وعلى ما أراه “من وجهة نظر سوري ومتابع للشأن السوري”، بحاجة إلى تشكيل معارضة حقيقية واعية ذات نظرة وأفق سياسي تكون قادرة على قيادة المرحلة القادمة والمفاوضات السياسية التي لا تحتمل وجود المعارضة الحالية القاصرة سياسيا أو معارضة تحوي تجار دماء وحروب أو متسلقين، هذه المرحلة التي ستضع الثورة السورية على مفترق طرق خطر يتطلب أن يكون الرجل المناسب في المكان المناسب بعيد عن معارضة الهواة والنشطاء.
حسام يوسف – تيار الغد السوري